" .. وأي تعب أعظم وشقاوة أطم ممن إذا تصفحت
أعماله من وقت انتباهه من نومه إلى حين رجوعه إلى الكرى لا تجد
منها شيئاً إلا وهو يلتمس به تحصيل غاية من هذه الأمور
المحسوسة الخسيسة .. إما مال يجمعه أو لذة ينالها أو شهوة
يقضيها أو غيظ يتشفى به أو جاه يحرزه .. وهي كلها ظلمات بعضها
فوق بعض في بحر لجّي .." من قصة حي بن يقظان |
التقنيات الحرة .
التفكّر المتواصل في الحياة وفي الأسئلة الكبرى
.
وهذه الممارسة شبيهة بممارسة القراءة والبحث التي تحدثنا
عنها .. ولكن بالعكس ..
في ممارسة القراءة والبحث فالسالك يسعى للحصول على إجابات من الخارج ..
يتلقى من الخارج المعارف والأفكار .
أما في هذه الممارسة فهو يُخرج ما بداخله من تساؤلات
للخارج ..
عندما يبحث السالك ويقرأ فهو يتوصل لفهم قضية هنا وقضية هناك .. ويأتي
التفكّر لهضم كل هذا الفهم ووضعه في إطار التساؤلات العميقة التي
تعتريه كإنسان موجود في هذا العالم .. هل أجابت عن هذه
التساؤلات التي تدور في داخله ؟
هل يعلم الآن حقاً ما هو العالم ؟ ما هو الواقع ؟
هل يعلم من أين أتى ؟ ولماذا ؟
عندما يدرس التلاميذ ويمارسون نشاطاهم في مدرسة ما .. كل الأحداث التي تقع
في هذه المدرسة وكل العلاقات المتشابكة والمعقدة التي تقع بين
تلاميذها ومعلميها .. كل ما يحدث في
هذا المكان يبدو أن له معنى ..
هناك معنى عام لكل ما يحدث داخل هذه المدرسة .. الكل يعلم
لماذا يفعل كل من بالمدرسة ما يفعلونه .
ولكن في العالم هذا كله .. في الوجود كله .. في الواقع
كله وكل ما يحدث فيه ..
ما هو المعنى ؟ .. لماذا ؟ .. ما الذي يجعله ضرورياً ؟ ..
وكيف يحدث ؟ .. وإلى ماذا يؤدي ؟ .. ولما كل ذلك من الأصل ؟!
تساؤلات عميقة طالما تفكر فيها الفلاسفة والمفكرون
وكل ذي عقل .. وطالما عبر عنها الشعراء والفنانون .
هذه التساؤلات هي التي تميّز الإنسان عن كل المخلوقات
التي ندركها على هذه الأرض .. وكل شيء نفعله عدا ذلك يتشابه مع ما
يفعله غيرنا من مخلوقات .
الشبكة والحياة التي نعيشها فيها تشغلنا دائماً بالكثير من المتطلبات التي
لا تنتهي ..
دائماً هناك شيء لابد من فعله .. وهدف لابد من تحقيقه ..
ودائماً هناك مشكلة لابد
من حلها ..
نسعى طوال الوقت لفعل هذا الشيء وتحقيق ذاك الهدف ولحل
هذه المشكلة .. ولكن لابد أن يتفكر السائل لما كل ذلك؟ وما معناه ؟
الأمر أشبه بإنسان يجلس مطمئناً في منزله .. وفجأة تنفتح عليه أبواب الجحيم
!
تُفتح الأبواب .. وتتكسر النوافذ ..
يسمع
ضجيج هائل .. وصراخ مخيف .. أصوات كالرعد الهادر تعم المكان .. أصوات تدعو الجميع للخروج والركض .. آلاف مؤلفة من البشر ..
كبار وصغار .. رجال ونساء .. بعضهم يركضون في الطريق .. بعضهم
يتسلقون الجدران والأشجار .. وبعضهم يلقون بأنفسهم من النوافذ ..
الناس تتزاحم على الأبواب وفي الطرقات .. صفارات وأبواق مجلجلة
تدوّي .. بكاء ورجاء .. ركض وتدافع .. بشر يقعون ويتعثرون ..
وآخرون يُسحقون ممن فوقهم .. الجميع يتجه إلى مكان ما .. البعض إلى
التلال .. البعض إلى الوديان .. وهذا الإنسان يركض مع كل هؤلاء ..
يحاول جاهداً أن يجد له طريقا .. يتجنب السقوط والتعثر .. يتلفت ..
ينادي .. يلهث .. و يبكي ..
الوضع يبدو مهولاً ومخيفاً .. وكلٌ مشغول في إيجاد ملاذ وطريق للنجاة ..
ولكن .. أثناء كل ذلك ..
لا أحد يسأل ما الذي حدث ؟ .. ما سبب كل ذلك ؟
الكل يفعل .. ولا أحد يسأل ..
هذا ما يحدث في الشبكة .. وهذا ما يجري فيها !
كلٌ منشغل ومستغرق في فعل شيء ما .. هدف ما .. مشكلة ما .. ولكن لا أحد يسأل
ما معنى كل ذلك من الأصل ؟ وما سببه ؟
بطبيعة الحال كل من يسعى لتحقيق هدف لديه إجابات قصيرة
المدى عن معنى ما يفعله ..
فإذا سألت أحدهم لماذا تسعى لهذا الهدف ؟ .. سيجيبك
لكي أتجنب هذا المأزق .. تسأل لماذا تسعى لتجنب هذا المأزق
؟.. سيجيب بجواب ما .. ثم تسأله لماذا .. فيجيب .. ثم تلاحقه
بسؤالك لماذا عن كل جواب سيعطيه .. ستجد أنه بعد سلسلة من
الإجابات سيجد أن هناك لماذا ليس لها جواب !
هذا ما يتفكر به المتفكرون !
والأسئلة التي لا جواب عليها هي التي ستؤدي بالسالك
للوصول إلى الأسئلة الكبرى ومعرفة أهميتها وضرورتها ..
الإنسان المتفكر في الحياة ومعناها هو أشبه بالإنسان الذي
توقف في ذلك الموقف المهول حيث الجميع يسعى للنجاة .. أجبر نفسه
على الهدوء .. صرف انتباهه للحظات عن كل ما يحدث حوله من أهوال
ليسأل سؤال بسيط واحد .. ما الذي حدث ؟ ما معنى الذي يجري ؟
فلعله لا يوجد شيء من الأصل !
إن التفكر في كل شيء هو ما يكشف للمتفكر عن أمور لم تخطر
في باله ..
وعندما يعتاد السالك التفكر في الحياة وكل ما يجري فيها
من أحداث سيكتشف أنه هو نفسه يسعى لأهداف لا معنى لها ..
ويحزن على أمور لا تستحق الحزن .. ويتألم من أحداث لا
تستحق التألم ..
وإن هناك الكثير من المطالب التي كان
يظن أنها واجبة ..هي ليست واجبه ..
ومسائل كانت تبدو له في غاية الأهمية .. هي في الحقيقة
ليست مهمة ..
وأشياء كان يُهملها ويستهتر بها .. هي أساسية له وواجبة
عليه ..
لهذا فالتفكر المتواصل في كل شيء هو من الممارسات التي يجب أن يعتادها
السالك .. ويعززها في نفسه .. وألا يكترث عندما يرى الأغلب من
البشر لا يعيرونها اهتماماً .. وأن يمارسها بعزم وفضول وجرأة
..
وكثير ممن وصل معنا لهذه المرحلة هم من المتفكرين بطبيعتهم ..
ولكن الكثير منهم كان يخشى هذا التفكر .. ويحاول أن يجاري من حوله فيما
يفعلون .. ويقلدهم فيما يسعون .. خوفاً من الوحدة والعزلة التي
طالما شعر بها .. وخوفاً من أن تعزيز هذه الممارسة سيؤدي به إلى
مزيد من الاغتراب الذي طالما أخافه ..
ليس السالكين ..
فالسالكون يعلمون أهمية التفكر في الحياة وفي كل شيء آخر .. ويعلمون أن
النتائج التي تترتب عن هذا التفكر هي التي ستدفعهم للحفاظ على
المسير .. وهي التي ستشعل فيهم نار الرغبة للوصول للهدف المنشود ..
وهي التي ستبدد الفتور الذي يعتورهم من حين لآخر .
ننتقل الآن إلى تقنية بالغة الأهمية سواء على طريق الحكمة أو في مسيرة
الحياة ..
التفريغ والتنفيس النفسي ..
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |