"هو رب اليوم ورب الغد ..
ولكن القلب الذي بحجم إصبع الإبهام ..
مقر له ومكان ..
من يعرفه
في صميم قلبه ..
لا يعرف الخوف ولا الأحزان .. أوبانيشاد |
أخطار وأعراض أخرى ..
الكآبة وفقدان السعادة وحس الاستمتاع .
بعض السالكين .. وخصوصاً المبتدئين منهم بعد أن يخطو قليلاً في
طريق الحكمة .. ويتمرسّون بعض الشيء في تقنياتها ..
وبعض شيء من الخبرات الجديدة والكشوف الهامة ..
يتأكدون من أن كل ما قاله الحكماء
هو عين الصواب .. ورأس الحقيقة .
وكل ما قالوه عن العالم وما فيه .. وعن المعاناة وأشكالها .. وعن
مصير الإنسان وقدره صادق ..
فقد شهدوا ذلك الآن بأنفسهم ..
عندما يحدث ذلك ينغمس هؤلاء السالكين أكثر في كتب الحكمة و أقاويل
الأنبياء والحكماء ..
ويوغلون كثيراً في الممارسة .. وينفرون من الحياة وما فيها من
بهارج ..
ولا يفكرون إلا بالموت وآثاره .. والمعاناة التي يمر بها الإنسان
منذ ولادته وحتى مغادرته لهذه الشبكة ..
ولا يفكرون إلا بذلك .. ولا يتكلمون مع غيرهم إلا به .. ولا يقرأون
إلا عنه .. ولا يستمعون إلا له ..
ويبعدون أنفسهم عن الاستمتاع بالحياة وما فيها ..
بحجة أن الحياة وهم من يتبعه كمن تبع السراب .. ومن يلتفت إليه
يغرق في غياهب الشبكة ..
يحزنون على هذا المصير .. وينظرون لكل شيء من هذا المنظور ..
فتتحول حياتهم ونظرتهم إلى سواد في سواد ..
فيمل الآخرين وينفرون منهم .. ويبتعدون عنهم للكآبة التي يبعثونها
في القلوب .. وللسواد الذي يصبغون فيه كل شيء من حولهم ..
وحتى هم .. فإن أنفسهم تمتلئ بالحزن .. وقلوبهم تُفعم بالكآبة ..
لا تجدهم يضحكون ولا يبتسمون ..
يمشون وقد احنوا ظهورهم من ثقل المهمة .. ومن سوء الحال !
وكثيراً من هؤلاء السالكين تجدهم يتلبّسون منظر الحكماء الزاهدين
كما يظنوهم عليه ..
ويقلدونهم كما يظنوهم في كل شيء ..
فيلبسون كما يعتقدون أنهم يلبسون .. ويمشون كما يعتقدون أنهم يمشون
.. ويأكلون مما يظنوهم يأكلون !
كل ذلك دون قصد منهم أو تعمد ..
إن كل ذلك نتيجة لضعف التمسك بصفات التمييز .. وبصفة الصدق بالذات
..
فلو كان هؤلاء السالكين صادقين فعلاً .. لاعترفوا لأنفسهم بأنهم
يرغبون في الحياة ..
ويحبون أن يفرحوا كما يفرح الآخرين .. ويضحكون كما يضحك غيرهم
.. ويستمتعون كما يستمتع الناس ..
ولكنهم يخفون كل ذلك بأنفسهم .. ويدّعون عكسه ..
وحتى لا يضغط عليهم ما خفوه داخل أنفسهم من رغبات بالفرح والبهجة
.. يكبّلون أنفسهم ويحيطونها بهذا الكم الهائل من الكآبة والحزن ..
إن هذا انحراف عن طريق الحكمة .. وفهم سقيم لمعناها وغايتها ..
إن غاية الحكمة هي السعادة المطلقة !
وقد ذكرنا ذلك في رسالة الخروج إلى الداخل في قسم غاية الحكمة ..
وتحدثنا إن علم الحكمة يؤكد على أن حقيقة الإنسان الفعلية هي أنه
سعيد سعادة مطلقة .. وهي سعادة لا مثيل لها ولا نظير لأنها تجمع كل
أشكال السعادة في حالة واحدة ..
وهو سعيد هذه السعادة الآن .. في هذه اللحظة !
ولكنه لا يختبر هذه السعادة ولا يشعر بها لأن طبقات الوعي لديه
تخفيها عنه .. تماماً كما تخفي الواقع الفعلي ..
هذا ما يتحدث عنه الحكماء وهذا ما يؤكد عليه علم الحكمة والتي
اختبره الكثيرون خبرة مباشرة ..
فإذا كانت غاية الحكمة هي السعادة المطلقة .. فكيف يمكن لطريقها أن
يكون طريق حزن وكآبة وتخلي عن المباهج ؟
إن هذا لا يمكن ..
عندما يتحدث الحكماء عن الموت .. والمرض .. والمعاناة التي توجد في
الشبكة هم يتحدثون عن واقع فعلي ..
واقع يختبره كل الناس ويعانون منه ..
بعضهم يتقبله بأسى .. وبعضهم يحاول تناسيه وتجاهله لعجزه وخوفه من
التفكير فيه ..
الفرق هو أن الحكماء هم الوحيدون الذين يقولون أنه لا داعي للقبول
مع أسى ولا داعي للتجاهل بدافع الخوف ..
كل المعاناة التي توجد في الشبكة هي وهم .. كالشبكة نفسها !
لا يوجد شيء يخيف .. ولا يوجد شيء يمكن الهروب منه ..
ولكي يمكن التثبت من ذلك فعلى الإنسان أن يواجه مخاوفه هذه ..
ويحاربها .. ويزيل الطبقات التي تولدها وتولد ما يخيف الناس منها
..
إنكم تخافون من أفعى .. وهي في الحقيقة حبل ملقى على الأرض !
وتخافون من شبح .. وهو في الحقيقة ظلكم أنتم !
الحكماء لا يخافون ولا يحزنون ..
لأنهم يعلمون أن حقيقة الواقع الفعلي .. هي سعادة مطلقة ..
وإن هذا ليس تفاؤل منهم .. بل هذه هي الحقيقة الفعلية التي
اكتشفوها واختبروها بأنفسهم ونقلوها لنا ..
إن الحكمة تؤكد إن كل المعاناة بكل أشكالها لها حل جذري ونهائي ..
وهو بإزالة المسببات التي تسببها ..
وطريق الحكمة هو العمل على إزالة هذه المسببات التي توّلد المعاناة
..
فكيف يمكن لمن يسير على طريق الحكمة أن يكون كئيباً حزيناً ؟!
الأمر أشبه بمن استشرى في جسده مرض خطير وعضال .. ولا علاج له ..
وهو حزين على حالة ومصيره ..
ثم يأتيه من يؤكد له على وجود علاج نهائي وناجع .. ويطالبه على
السير على طريق العلاج للوصول للشفاء التام ..
فكيف لهذا المريض أن يكون حزيناً وهو يسير على هذا الطريق ؟!
إن كل هذه الكآبة التي يتمسك بها السالكين .. ويفرضونها على أنفسهم
وعلى غيرهم ناجم عن الضعف في الفهم وفي الفعل ..
فالسالك هذا مازال موجود في الشبكة متأثر بمعاناتها .. ولم يلتفت
قلبه لما وراءها مما لا يوجد فيه معاناة من الأصل .
وهذا التلبّس والتقليد لمنظر الحكماء .. وادعاء التشبه بهم هو تلبس
سقيم ..
فالسالك لا يقلد أحد ..
فكل تقليد لأي أحد هو انغماس في صورة هذا الشيء الذي تم تقليده ..
بمعنى أن هذا السالك يضع الصورة التي يظن أن الحكماء عليها في ذهنه
ثم يغرق في هذه الصورة ويظن أنها هو ..
إنه استغراق آخر .. وطبقة إضافية تضاف على طبقات الوعي !
المطلوب إزالة الطبقات .. ولكن السالك يضيف عليها طبقة جديدة !
لا تحاول تقليد أحد .. كن كما أنت ..
فما تظنه أنت هي طبقات من الوعي تقول لك من أنت .. الشخصية ..
التربية .. التعليم .. ما يجب أن تقوله .. ما يجب أن تفكر فيه ..
ما يجب أن تحبه ..
كلها طبقات تقول لك من أنت .. وهي الطبقات التي يجب إزالتها لكي
يتمكن الإنسان من معرفة حقيقته الفعلية ..
المسألة كلها هي أن تعرف من أنت على الحقيقة !
لذا على السالك أن يسعى لاستكشاف نفسه وأن يكون كما هو عليه بالفعل
.. دون تقليد .. ودون صور ذهنية .. ودون طبقات .
عندما تزال طبقة من طبقات الوعي .. وحاجز من حواجز النفس نتيجة
للممارسة فإن هماً عظيماً يزاح عن النفس ..
مع كل طبقة تزال من على وعي السالك .. تشرق النفس أكثر .. يلمع
بريقها أكثر ..
ويشعر السالك أنه تنفَس الصعداء
.. وأن وزنه خف لأن ثقلاً عظيماً زال عن كاهله بفعل إزالة
هذه الطبقات وتخطي الحدود التي توّلدها ..
فيشعر بحرية أكبر .. وتتفجر فيه مواهب كانت مكبوتة .. وملكات كانت
خفيه .. وقدرات لم يتخيل أنها فيه !
إن كل ذلك حقيقة فعليه يشهد عليها السالكون عندما يتمكنون من إزالة
طبقة من طبقات الوعي وتخطي حاجز من حواجز النفس الدفينة ..
ونحن نؤكد ونشهد عليها أيضاً من خبرتنا المباشرة ..
وهي من أعظم وأروع الخبرات ..
وهي التي تدفع للمزيد من الرغبة في التمرس في الممارسة لإزالة
المزيد من الطبقات ..
وتخطي المزيد من الحدود والحواجز .. واكتساب المزيد من الخفة
والحرية ..
وكل ذلك عندما يحدث تظهر حقيقة السالك أكثر .. ويظهر معدنه البراق
اللامع ..
ويعمل ويتفاعل مع العالم الآن بحقيقته الجديدة التي انكشفت له الآن
.. بعيداً عن أكاذيب الماضي .. وأقنعة الزمان السابق على الممارسة
.
هذه الرحلة كلها برمتها .. من كشف الحدود .. وبذل الجهد .. وتغيير
السلوك ونمط المعيشة .. والتعامل بجسارة وجرأة مع الحياة .. إنها
كلها رحلة رائعة وممتعة ..
السالك في هذه الرحلة يمتلك حياة غنية وثرية كل الثراء ..
بالمشاعر والأحاسيس .. بالتفكير والتحري .. بالمكافحة والمجاهدة ..
بالإخفاق والنجاح .. بالتجارب الجديدة .. والكشوف العظيمة ..
والفهم المشرق .. والمعارف العميقة عن كل شيء .. والترابط الغريب
بين الأحداث ..
إن حياة السالك خالية من الملل والفراغ .. والتخفي وراء الأقنعة
والحدود .. والسير جانب الحائط خوفاً من الانكشاف ..
والسعي وراء رتابة لا تتغير .. وخوف من المجهول .. وأيام كلها كيوم
واحد لا يتبدل ..
حياة رمادية .. لا طعم لها ولا لون !
أما حياة السالك فكما ذكرنا مفعمة بالألوان جميعاً .. وبالنكهات
كلها حلوها ومرّها .. و بالروائح على اختلاف أريجها ..
إنها الحياة كما يجب أن تُعاش !
فكيف يمكن أن يكون هذا الطريق هو طريق كآبة وحزن .. وابتعاد عن
الفرح والاستمتاع ؟
فعلى السالك الذي يجد هذا الميل في نفسه للكآبة والابتعاد عن
الاستمتاع في الحياة أن يلتزم صفات التمييز .. وأن يبحث في نفسه
عن الأسباب التي تؤدي لذلك ..
وعليه أن يكشف بشجاعة وحزم عن
الشيء الذي يخشاه من الحياة .. وعن السبب الذي يجعله
يهرب من المتعة وينكر رغبته فيها ..
والذي تحميه هذه الكآبة المصطنعة منه .. ويوفر له هذا السواد منه
الملاذ ..
فهل هو الغرور والرغبة بالإثبات لنفسه ولغيره إنه متميز ليس كبقية البشر لا
يسعى لما يسعون ولا يرغب بما يرغبون ؟
أم هو الخوف من مكانه في الحياة والذي يظن أنه لا يستحقه ؟
أم هو هروباً من مواجهة الحياة والناس ؟ ولماذا هذا الخوف ؟
فليبحث في ذاته عن السبب لهذا الادعاء ..
وليواجه مخاوفه وليعد إلى ميدان الحياة ليتعلم المزيد عن
نفسه ..
وليحرق المزيد من الأوهام .. سعياً وراء الهدف الأكبر ..
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |