" ..
وكان الذي أوقعه في ذلك ظنه أن الناس كلهم مثله ذوو
عقول فائقة .. وأذهان ثاقبة .. ونفوس عازمة .. ولم يكن يدري ما
هم عليه من البلادة والنقص .. وسوء الرأي وضعف العزم .. وأنهم
كالأنعام بل هم أضل سبيلا " من قصة حي بن يقظان |
أخطار وأعراض أخرى ..
الاشمئزاز من الشبكة وما فيها ومن فيها .
مما لاشك فيه أن الالتزام الطويل بتقنيات الممارسة توسّع الوعي ..
وتزيد الذكاء .. وتحد الفكر .. وتعمّق العقل ..
وتصحح المفاهيم .. وتهذب النفس .. وتصفّي الذات .. وتحوّل العقل
إلى ما يشبه السيف الحاد القادر على الفصل بين الحق والباطل .
كل هذه النتائج سيترتب عليها
فهماً أعمق للعالم وما فيه .. وترابط للأحداث والظواهر التي
بدت مشتتة متناثرة في السابق
..
ولحظات عظيمة لفهم ما كان غامضاً .. وانبهاراً بكشف لقضايا طالما
كانت مبهمة ..
وحلول سهلة ومفاجئة لمشاكل ومسائل كانت معقدة .. وحلاً لعُقد في
النفس وفي الحياة لطالما كانت متشابكة ..
فكما ذكرنا في رسالة الخروج إلى الداخل وفي قسمي الكل وأجزاءه
والعالم كوحدة واحدة هو إن العالم كله .. الوجود كله هو شيء واحد
..
هو وحدة واحدة مترابطة ومتحركة لا يمكن فصل أجزاءه عنه ..
الواقع ككل هو أشبه بشاشة سينمائية .. تعرض صورة
متحركة ومتغيرة .. هذه الصورة هي صورة واحدة ..
المشكلة إن الجاهل في هذه الحقيقة ينظر لمربع صغير من هذه الشاشة
.. جزء صغير من الشاشة لا يرى غيره ..
ثم يحاول بالنظر لهذا الجزء من فهم الحركة الكلية التي تحدث في
الشاشة كلها ..
إن هذا أمر مستحيل !
لهذا تبدو الصورة في عين الجاهل غير مفهومة .. عشوائية .. لا معنى
لها ولا نمط ..
أما الأنبياء والحكماء فلأنهم يرون الصورة التي تعرض على الشاشة
بأكملها ..
لهذا فهم يفهمون لماذا تتحرك في هذا الجزء بهذه الطريقة وبذاك
الجزء بتلك الطريقة الأخرى .
هم يستطيعون الفهم وربط الأجزاء لأنهم يرون الصورة بأكملها ..
الواقع الفعلي كله ..
السير على طريق الحكمة والالتزام بالممارسة الروحية يمكّن
السالك من رؤية أجزاء أكبر وأكبر من صورة العالم الواحدة ..
كلما رأى
قسماً أكبر .. كلما تترابط لديه الأجزاء أكثر.. وكلما تعمّق
لديه الفهم للعالم وما فيه ..
السالك الذي قطع شوطاً جيداً على طريق الحكمة هو أيضاً يرى
جزءاً يكُبر تدريجياً للصورة الكلية ..
ويفهم أكثر ترابط العالم وأجزاءه ..
ولكنه يواجه كل يوم ..
ويصطدم في كل ساعة مع الكثير من الحماقات التي يولدها الجهل بكل
ذلك ..
أفكار العوام وفهمهم السقيم .. سلوك ومعتقدات مبنية على ذلك ..
عادات وتقاليد .. أفكار وفلسفات .. فهم خاطئ ومنحرف لكل شيء ..
يواجه ذلك بأفعال الناس الذين يتعامل معهم والذين يسمع عنهم .. في
السياسة التي تدور أحداثها .. في الاقتصاد وكيفية إدارته .. في
المجتمع وثقافته وسلوكياته ومعتقداته .. في أساليب التعليم
والتربية .. في النظر للأديان والعلوم .. الخ
كلها أفكار ومفاهيم خاطئة نابعة من الفهم الخاطئ لما يحدث في
الواقع بالفعل ..
عندما يقرأ .. عندما يتابع .. عندما يتعامل مع الآخرين .. عندما
يسمع لهم بكل أشكال السمع .. هو يواجه الجهل ..
في كل مكان يتوجه إليه !
كلما تعمق فهم السالك أكثر .. وتحسنت نظرته للواقع الفعلي كما هو
موجود بالفعل .. كلما تفتحت عيناه على الحقيقة أكثر ..
وكلما تفتحت عيناه على الحقيقة .. كلما شاهد واختبر بنفسه مدى عمى
الناس والعالم الذي يعيشون فيه !
مدى تخبطهم .. وتلاطمهم وتصادمهم بالجدران ..
عالم ضائع .. وناس ضائعون ..
عالم ضال .. وناس ضالون ..
عُمي يقودهم عميان !
إن كل ذلك مثير للسأم والأسى في نفس من يعلم .. والذي
يتأثر
معهم في عالم قلبوه رأساً على عقب !
كلما تقدم السالك على الطريق كلما زادت جرعات الجهل التي
عليه تجرعّها يومياً !
وإن أكثر ما يزيد الأمر سوءاً فوق كل ذلك .. هو العناد والمكابرة
والتبجح بالجهل .. وعدم الاكتراث للمعرفة من قبل اغلب البشر ..
يحاول أن يُفهمهم .. فلا يفهمون ..
يعلّمهم .. فلا يتعلمون ..
يعرض عليهم الحقائق .. فيتمسكون بالأباطيل ..
يقدم لهم الوقائع .. فلا يقبلون إلا الأوهام ..
يكلمهم بحرص وحماس .. فيواجهونه ببرود وبلادة ..
يحثهم على تبسيط الفهم
..
فيتفذلكون
..
ويطالبهم بالبداهة .. فيتنطعون ..
يُلفت انتباههم لأصل البلاء .. فيلتفتون للفروع ..
يوجههم للجوهر .. فيتمسكون بالمظهر ..
كل ذلك بتبجح .. وعناد ومكابرة .. ومراوغة لا تنتهي .. وثقة زائدة
بالجهل الذي هم عليه .. وغرور عن التعلم والفهم من غيرهم ..
إن السأم هنا يتحول لاشمئزاز ..
والاشمئزاز .. ينمو مع كل هذا ليتحول لاحتقار ..
فيمل السالك بعد ذلك من العالم وما فيه .. ويسأم الناس وما لديهم
.. يشمئز منهم ويحتقرهم ..
إن هذا عرَض من الأعراض التي تحدث لا محالة بعد كل خطوة كبيرة
يخطوها السالك على طريق الحكمة ..
وهو عرَض مبرر ومفهوم ..
فالعالم حقاً مليء بالهراء !
ولكن ..
على السالك هنا ألا يبالغ في غيه .. وفي رفضه لهذه المفاهيم
السقيمة ..
وعليه ان يضبط نفسه وفكرة لمنع المبالغة في كل ذلك ..
وعليه أن يتذكر أنه هو جزء من هذا العالم .. وإنه كان في يوماً ما
من الجاهلين ..
وأنه ومنذ وقت قليل كان يرى ما يرى الآخرون في كثير من الأمور أو
بعضها ..
فليس معنى أنه فهم أمراً ما وعلم ما به من ضلال أن يفهم العالم كله
ما فهمه .. ويرى ما رءاه ..
وما أدراه لعله مخطئ بفهمه الحالي كما كان مخطأً من قبل ؟
فهو لم ير العالم كله بعد ..
ومازال في الشبكة ولم يخرج منها !
ولو خرج منها لعلم أن كل ذلك الجهل وكل هذا الفهم السقيم .. وكل ما
عليه الناس من أباطيل هو جزء من الصورة الكلية .. وليست خارجة عنها
.
وأنه جزء من تحرك وتغير الواقع الكلي .. يمثل كل إنسان منه جزءاً
ضرورياً ..
فالكل هم في النهاية في هذا الواقع وحدة واحدة لا تتجزأ .
وعليه ألا ييأس من العالم وما فيه ..
ففي العالم خير ..
وفي العالم راغبون في التعلم كما كان راغباً هو في التعلم ..
وخصوصاً في هذه المرحلة الشائكة التي تمر بها الشبكة ومن فيها ..
هناك الملايين ممن هم غير راضين عن كل ما يحدث .. رافضون وينتظرون
أمراً ما ..
محتارون وضائعون ..
هناك الملايين ممن يرغبون في إحداث تغيير جذري في أنفسهم وفي
العالم ولكنهم لا يعلمون كيف ؟ ولا ما عليهم فعله ؟
وكما أن السالك تعلم بعد أن كان جاهل .. واهتدى للطريق بعد أن كان
ضالاً ..
فهناك الملايين ممن يسعون لذلك وهم جاهزون له ..
إن المشكلة إن شعور الاشمئزاز هذا إن استحكم في النفس فسيجعل
الحياة في هذا العالم مستحيلة ..
والخطر الكبير الذي على السالك تجنبه بأي ثمن هو إن هذا الشعور
سيؤدي مع الوقت ولا محالة للغرور والتعالي ..
والغرور هو أصل الوهم ..
والوهم هو الخطر الأكبر ..
فإن لم يضبط السالك نفسه وفكره وسمح لهذا الشعور الخاطئ بالتمدد
والاستحكام في نفسه ستتولّد منه أوهام كثيرة ..
وسيعود السالك مرة أخرى للأوهام الجامحة !
وستصبح عائقاً جديداً أمامه .. وأمام تقدمه على الطريق ..
والسالك يفعل أي شيء لتجنب ذلك .. وبأي ثمن ..
فعلى السالك هنا الالتزام بصفات التمييز ..
والتمسك بالتواضع ..
ففوق كل ذي علم عليم ..
فلا يجوز الاشمئزاز والاحتقار ..
ليس هذا من سلوك الحكماء !
فلا يجوز للكبير الناضج أن يحتقر أو يشمئز من جهل الطفل الصغير ..
بل إن هذا يجب أن يدفعه للتعاطف معه .. والرغبة في المساعدة ..
دون إرغام وتشدد ..
بأن يعطي الآخرين على قدر تلقيهم .. وعلى مقدار استيعابهم .. كما
يعطي الكبير الصغير الفهم على التدريج ..
فالناس وعقولهم كالأوعية .. بعضها كبير قابل لتقبل كم كبير من
المعرفة .. وبعضها لا يكاد يحتمل قطرة من المعرفة أو بضع قطرات !
وليسعى هو لعمل التغيير الذي يطالب به الآخرون ..
وليسأل نفسه عما قام به هو في هذا العالم
لإحداث تغيير ما ؟
وما الذي عليه فعله للقيام بذلك ؟
فليتوقف عن الشكوى .. وليبدأ العمل ..
وليضيء شمعة .. ولا يلعن الظلام .
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |