" يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه
"
الحقائق النبيلة الأربع في البودية
حقيقة المعاناة
حقيقة سبب المعاناة
حقيقة إمكانية الخلاص من المعاناة
حقيقة الطريق المؤدي للخلاص من المعاناة
"
ليس كل شيء هنا سوى ألم لمن يملك البصيرة اليوغا سوترا
ظلام .. ظلام دامس في كل الاتجاهات ..
أنت الآن تجد نفسك في جزيرة معزولة..
الجزيرة صغيرة والبحر يحيط بها من كل الاتجاهات..
الجزيرة بها ماء ونباتات ..أشجار وحيوانات قليلة تأكل وترعى ..
أنت في حالة من الذهول لا تعلم من أتى بك إلى هذه الجزيرة ولا
تعلم لماذا..
بحثاً عن إجابات تجول مضطرباً في هذه الجزيرة .. تنظر حولك وتتفحص كل
شيء تصادفه ..
تجد مجموعة من البشر ..
تركض لاهثاً نحوهم آملاً أن تجد لديهم إجابات .. أنفاسك تتلاحق
من شدة الذهول والحيرة والخوف وأنت تروي لهم ما حدث لك :
" لقد شاهدت ظلام ثم وجدت نفسي على هذه الجزيرة ، ولا أعلم من
أتى بي إلى هنا ولا لماذا"
تسألهم آملا بإجابات :
"من أنتم؟ ما الذي أتى بكم إلى هنا؟ ولماذا؟"
يرفع أحدهم كتفيه دون اكتراث قائلاً : "لا نعلم ، لقد حدث معنا
ما حدث معك"
تسأله وقد اشتد ذهولك من قلة اكتراثه :" إن هذه مصيبة ، لا بد
أن نعلم وإلا كيف سنتمكن من الخروج من هذه الجزيرة والعودة من
حيث جئنا؟"
ينظر إليك ببلاهة ...
هناك أرنب صغير يركض..
يركض خلفه الرجل الذي يكلمك قائلاً : "لا يهم ، أريد أن
أصطاد هذا الأرنب لإعداد العشاء"
يركض الآخرون خلف الرجل والأرنب مبتعدين ..
في حالة من الذهول والحيرة تقف وحيداً لا تعلم ما الذي عليك
فعله ..
تنظر إلى البحر الممتد إلى ما لا نهاية .. ثم تنظر إلى الجزيرة ..
هناك حشرات تتحرك بحماس شديد وحيوانات ترعى باطمئنان .. |
ضرورة المعرفة – المعاناة
الموت ..
الشيخوخة..
المرض..
الأماني التي لا تتحقق ..
المخاوف التي تتحقق ..
هذه الظواهر والأحداث تحدث في حياتنا
..وهي حتمية لا يمكننا الخلاص منها أو منع حدوثها ..
وفي الحقيقة فإن حياة الإنسان هي معاناة حقيقية
الإنسان دائماً غير راضي ..غير سعيد..
قلق ..وخائف ..غاضب .. وحزين ..
أغلبية البشر يظنون أنهم يعلمون سبب عدم رضاهم وقلة
سعادتهم ، يظنون أنهم يعلمون لماذا هم قلقون أو خائفون أو حزينون
..
يظنون أن السبب في ذلك هو هذا الهدف أو ذاك ..هذه الغاية
أو تلك ..
يظنون إنهم عندما يحققون هذا الهدف وينالون هذه الغاية
سيكونون سعداء راضين ..
ولكن ما أن يحققوا هدفهم وبعد فترة من الرضا حتى يظهر هدف
آخر ..
ثم عدم رضا وتعاسة بسبب هذا الهدف الآخر ..وعند تحقيقه
يظهر هدف آخر وآخر..
وهكذا دائرة لا تنتهي ..
وهكذا فإن حياة أغلب البشر هي سعي متواصل لتحقيق غاية ما
..
وبحتمية الشيخوخة والموت التي يعلم كل إنسان بوعي أم بغير
وعي اقترابهما يصبح هذا السعي ركضاً لاهثاً مجنوناً لا نهاية له ..
العقلاء من البشر يعون بقوة عقولهم وصفاء نفوسهم أن هناك
شيء ما خاطئ ..
هناك خلل ما ..
التعاسة وعدم الرضا ، القلق والخوف والألم تبدو
أشياء
أصيلة ملازمة للحياة نفسها
لن يؤدي تحقيق الهدف المراد والغاية المطلوبة لإنهاء
المعاناة .
لماذا؟
لأن الإنسان
دائماً يتمنى شيء ما ولا يناله .. وإن ناله سيظهر شيء آخر ثم آخر
ثم آخر إلى ما لا نهاية..
وإذا نال كل ما يريده وحصل على أقصى ما يمكن لإنسان
الحصول عليه فلن
يدوم له ذلك ..
سيفقده بالشيخوخة وبالموت إن لن يفقده قبل ذلك لسبب آخر
..
أياً كان الأمر فأن معاناة الإنسان يمكن اختصارها بالآتي
:
الإنسان إما إنه يسعى لشيء ولا يحصل عليه.. وإما إنه يحصل علي شيء
ولكنه يفقده . هذه حقيقة .. هذا أمر واقع ..
وهي حقيقة حتمية لا يمكن الفرار منها .
ولكن ..
ليس كل البشر على نفس القدر في إدراك حقيقة المعاناة .
كل إنسان في هذه الحياة يعاني ولكن البشر يختلفون فيما
بينهم بدرجة المعرفة بحقيقة معاناتهم .. هذا الاختلاف سببه
الاختلاف في مستوى التطور الذهني والروحي بين البشر ، هذا الأمر
سنفصله فيما بعد ولكن
هنا نحن نتحدث عن المعاناة وعن مستوى إدراك هذه المعاناة .
يمكننا تحديد أربع مستويات لمدى إدراك الإنسان لمعاناته:
المستوى الأول
هم فئة من البشر لا يدركون أصلاً أن هناك معاناة!
الحياة بالنسبة لهم سعيدة ومرضية ورائعة
هم سعداء أغلب الوقت ..حالتهم المتأصلة فيهم هي الرضا
والبهجة ..هم سعداء ضاحكين فرحين ..وهم في الحقيقة أشخاص ظرفاء
وممتعين .
القلق والخوف والحزن هي أعراض تظهر لديهم أحياناً ولكن
سرعان ما تزول ويعودون لحالتهم الطبيعية من الرضا والبهجة.
معاناة الإنسان موجودة لديهم ولكنها في الأعماق السحيقة
من وعيهم .
هم كالأطفال الذين تمتلئ حياتهم بهجة وسعادة لأنه لم
تتهيأ الظروف بعد ليدركوا أو يعوا معاناتهم..
لا يفهموا أن هنالك أي معاناة و لا يرون أن هناك أي مشكلة
تستحق الحل .
وبطبيعة الحال لا معنى للحديث عن المعاناة وعن الخلاص
منها مع أفراد هذه الفئة من البشر .
هذا النص ليس موجهاً لهذه الفئة من البشر .
المستوى الثاني
هم فئة من البشر يدركون أن هنالك مشكلة فعلاً ، وهم
يعانون دائماً ولكنهم يخطئون في إدراك سبب معاناتهم..
القلق والتوتر والخوف هو الغالب عليهم وهي الأعراض
الأساسية لمعاناتهم.
شعورهم بالحزن والكآبة قائم أساساً على القلق والتوتر..
يظنون أن سبب معاناتهم ومشاكلهم هي إنهم لا يحققون ما
يريدونه من أماني ..مال ..سلطة..شهرة أو مركز اجتماعي ، ويظنون
أنهم لو نالوا ما يريدون فإن مشاكلهم ستحل نهائياً ومعاناتهم
ستنتهي.
الأغلبية العظمى من البشر هم من هذه الفئة.
هذه الفئة لا يكترثون بمثل ما في هذا النص .. يظنون أن ما
فيه هو شطط في الخيال وأنه نوع من الترف الفكري البعيد عن مشاكلهم
وهمومهم .
هذا النص ليس موجهاً أيضاً لهذه الفئة من البشر
المستوى الثالث
هم الأكثر إدراكاً للمعاناة والأكثر إحساساً بها وتألم
منها.
هم في حالة صراع داخلي عميق ، مستمر وعنيد..يأخذ هذا
الصراع قسطاً كبيراً من جهدهم وأعمارهم .
في الأساس إدراك حقيقة معاناة الإنسان أقرب إلى وعيهم
ولكن بسبب نقص المعرفة تبدو الأمور لديهم غامضة وضبابية
فالمعاناة هنا تدور حول ذواتهم هم لا حول الإنسان كإنسان.
وهذا هو السبب الرئيسي للصراع الذي يعيشونه والذي يصبح في
المراحل العليا من هذا المستوى وقرب المستوى الرابع صراعاً أكثر
شدة وزخماً يحوّل حياتهم إلى جحيم حقيقي لا يطاق.
يقومون بما عليهم دون حماس على عكس أصحاب المستوى الثاني،
وعندما يحققون أهدافهم فسرعان ما يعودون لحالة عدم الرضا دون أن
يعلموا هم أنفسهم لماذا؟
لذا هم في حيرة من أمرهم ويتساءلون دائماً : لماذا أشعر
هكذا؟ ، ما الذي أريده؟ ، لماذا أنا لست كالآخرين؟
التشاؤم والحزن والكآبة والانطواء هي الأعراض الأساسية
لمعاناتهم
ولأنهم الأكثر إدراكاً وإحساساً لمعاناتهم فأفراد هذا
المستوى بوعي أم دون وعي هم الأكثر اهتماماً في التفكر والبحث
عن إجابات فهم الأكثر اهتماما بمجالات الفلسفة والأديان
والعلوم الأساسية.
لا يفهم أفراد المستويين الأول والثاني هذا الاهتمام بهذه
المجالات العميقة في الفكر ..يعتبرونه نوع من الترف الفكري ..الميل
للخيال..الهروب من الواقع والابتعاد عن مشاكل الحياة وهمومها .
أما أفراد هذا المستوى ولأنهم الأكثر نضجاً يعلمون في
أعماقهم أن البحث عن إجابات مسألة أساسية لا بد منها ..
هي مسألة حياة أو موت بالنسبة لهم ..
وبسبب نقص المعرفة فحتى هم أنفسهم لا يعلمون لماذا؟!
ومع ذلك فهم يشعرون بذلك في أعماق أنفسهم ولا يستطيعون
التوقف عن التفكر والتأمل والبحث حتى لو حاولوا ذلك جهدهم .
وبسبب نقص المعرفة وضعف الثقة بالنفس وبسبب أن الغالبية
العظمى ممن حولهم لا يشاركونهم اهتماماتهم وسعيهم ..
فهم يبدؤون بالتشكك حتى في أنفسهم وعقولهم..
مما يزيدهم عزلة و إنطواءاً وتعاسة ..
كما ذكرنا فأفراد هذا المستوى يدركون حقيقة معاناتهم
ولكن المعاناة لديهم تدور حول ذواتهم.
المعاناة
هي مشكلة شخصية وليست فلسفية بالنسبة لهم ..لذا
فالبحث عن خلاص من المعاناة لديهم يدور في الإطار النفسي لا
الفلسفي.
المستوى الرابع
أفراد هذا المستوى هم الأكثر إدراكاً لحقيقة معاناة
الإنسان كمشكلة فلسفية
هم يدركون الآن أن المعاناة هي حقيقة ملازمة للحياة نفسها
..
هم يدركون أن في الحياة نفسها هناك شيء ما ناقص
هو السبب للمعاناة
الموت.. المرض..
الشيخوخة وفقدان الشباب والجمال..
الأماني والأحلام الضائعة ..
عدم دوام وبقاء النعم ..
هي أمور حتمية لا مجال للهروب منها .
هناك شيء ما في الحياة نفسها أو شيء ما في طبيعة الإنسان
نفسه يفرض المعاناة.
يعلم أفراد
هذا المستوى ذلك..
إدراك أفراد هذا المستوى بحقيقة المعاناة وأنها حتمية
ملازمة للحياة وإنها قدر للإنسان يحررهم من التأزم النفسي الشديد
الذي يصاحب أفراد المستوى الثالث.
هم يعلمون الآن إنه ليس في أيديهم شيء يمكن عمله ..
المعاناة ملازمة للحياة ..
هذا الفهم يدفع فئة من هذا المستوى لليأس التام وفقدان
الأمل ..
وفي الحقيقة فإن هناك الكثير من الاتجاهات الفلسفية التي
تنطلق من هذا الفهم وترى أن الحياة لا معنى ولا غاية لها.
الأفراد في المراحل العليا من هذا المستوى ينظرون للمشكلة
من الاتجاه الآخر..
المعاناة ليست ملازمة للحياة ..بل هي ملازمة للإنسان نفسه
..
هناك شيء ما في الإنسان نفسه يفرض عليه المعاناة ..
ما هو ؟ وهل هناك أمل للخلاص؟
هنا يبدأ أفراد هذه المرحلة في البحث في دواخل أنفسهم
..في داخل الذات لا في خارجها .
هذا النص موجه لأفراد هذا المستوى والمستوى الثالث .
حقيقة المعاناة
لا يمكن حل مشكلة إلا بالاعتراف بوجود المشكلة .
ولا يمكن شفاء مرض إلا بالاعتراف بوجود المرض .
كذلك الأمر في المعاناة ..
لا يمكن الخلاص من المعاناة إلا بالاعتراف بحقيقة
المعاناة .
البعض يقرر الهرب من حقيقة المعاناة بعدم التفكير بها
والتركيز على هذه الغاية أو تلك ..
البعض الآخر يحاول إنكار حقيقة المعاناة بالادعاء بعدم
وجود المشكلة وذلك بالتركيز على النظرة الإيجابية للحياة ..
النظرة الإيجابية للحياة تساعد على تخفيف الأحزان وتقبُل
الصعوبات ولكنها لا تلغي حقيقة المعاناة .
سيظل هناك موت وستظل هناك شيخوخة وسيظل هناك مرض وستظل
هناك آمال لا تتحقق .
قدر الإنسان هو أن يعاني .. وإنكار ذلك لا يعدو كونه خداع
للنفس وهروب لا طائل منه.
لا يمكن الفرار من هذه الحقيقة ..
الأعزاء الذين يموتون ونفقدهم واحداً بعد
الآخر .. والألم الذي ينتج عن هذا الفراق.
معرفتنا بأننا نحن بأنفسنا سنموت وسنترك
وراءنا ما نحب .
السنوات التي تمر بسرعة فتحول أمانينا
وأحلامنا الغالية القديمة إلى سراب يبتعد يوماً بعد يوم
الشيخوخة التي تلوح بالأفق وفقداننا لشبابنا
وصحتنا وجمالنا
الأمراض والآفات التي تصيبنا أو تصيب أعزاء
لنا فنعاني ونتألم دون أن يكون بأيدينا شيء لفعله
وكأن كل ذلك لا يكفي .. يظل هناك دائماً الخوف من
الفقر .. العار .. ونبذ الآخرين لنا والشرور التي لا حصر لها
كلها حقائق حتمية ستحدث لنا شئنا أم أبينا ..
طوعاً أو كرهاً ومعرفتنا بحتمية ذلك يطبع في قلوبنا وأنفسنا الخوف
والقلق والحسرة والشعور بالعجز .
وسواء أدركنا ذلك ووعيناه أم لا فإن هذه
الحقائق الحتمية التي تحدث لنا والتي نقف عاجزين أمامها هي في
أعماق وعينا السحيقة تسبب لنا الألم .. والمعاناة
لو لم تكن هناك معاناة ..
لو لم يكن هناك موت ..مرض ..شيخوخة .. فقر..
أماني لا تتحقق .. وفقدان لما بين أيدينا ..
لو لم يكن هناك شيء من ذلك .. لما كان هنالك
مشكلة .
ولما كان هنالك من داعي للبحث والتفكر ..
ولاكتفينا بالاستمتاع بحياتنا وشبابنا مع
أحباءنا وأعزاءنا بسعادة وهناء .
ولكن هناك مشكلة فعلا !
هناك موت ومرض وشيخوخة وأماني لا تتحقق وفقدان
لما بين أيدينا ..
ونحن لا نستطيع أن ننكر ذلك ولا
نستطيع أن نتجاهله أو لا نتأثر ونتألم منه ..
ونحن لا نستطيع فعل شيء إزاءه ..
لا نستطيع منعه أو حتى تأخيره
..
فهل يستطيع إنسان يتأثر بكل ذلك ويتألم منه أن
لا يتساءل؟
لماذا؟
ما معنى ذلك ؟
ما الهدف والغاية منه ؟
لماذا علينا أن نعاني من كل ذلك ؟
هل هناك من حل؟ هل هناك من خلاص من هذه
المعاناة ؟
وعندما يسأل الإنسان هذه الأسئلة - ولابد له
أن يسأل - فعليه أن يبحث عن إجابات ..
يبدأ طريق الحكمة من هذه النقطة بالذات .
وهي الاعتراف بأن هناك مشكلة وأن هذه المشكلة لابد لها من
حل .
ولكي تحل المشكلة فلابد من المعرفة . الحكماء يعلمون أنه لا مهرب وأنه لا بد من المواجهة وإنه من لا يدرك ذلك الآن سيجبر جبراً على إدراكه عاجلاً أم آجلاً ..
شاء أم أبى !
ولأن المواجهة ضرورية فالمعرفة والبحث ضروري وحتمي ولا
مجال لتجاهله والهروب منه ..
ولكي نتمكن من الإجابة عن هذه الأسئلة التي
تدفعنا المعاناة مرغمين لطرحها فعلينا أن نبحث في
ما هو أوسع ..
ما هو العالم؟
من أين أتى؟ ما مصدره؟
ما هو الإنسان ؟ من هو ؟
ما مصيري ؟
ما الغاية من وجودي ووجود كل شيء؟
ما معنى كل شيء ؟ من أين أتى كل شيء؟
ومن سؤال إلى آخر .. تتوسع رحلة البحث عن
المعرفة ..
نبدأ في البحث عن الأسئلة الأقرب لنا
والأكثر مساساً في حياتنا
ثم يتبين لنا بأن الإجابة عن تلك الأسئلة تتطلب البحث في
أسئلة أخرى .. ثم أخرى .. ثم أخرى ..
في كل مرة نتعمق أكثر في البحث ونبتعد عن الأسئلة التي بدأنا منها ..
يصبح مجال البحث هنا أكثر بعداً وأشد
تجريداً. فيظن من لا يعلم أن البحث في هذه المسائل العميقة والمجردة لا تعدو كونها فضولاً فارغاً .. فيواجه من يبحث عنها بجد بأسئلة بلهاء عن الفائدة منها .
تتشابك وتتعقد وتزداد أسئلتنا عمقاً
وتجريداً في كل
مرة ..
يعلم الباحثون أنه
لا مجال أمامنا إلا البحث عن المعرفة لأننا
نبحث عن الخلاص . العلماء والمفكرون والفلاسفة والباحثون في أي مجال يعلمون ذلك والسبب في ذلك كما قلنا إنهم يعلمون أن هناك مشكلة وإنه لا يمكن حل هذه المشكلة إلا بالمعرفة .
فكما يتضح هنا إذاً فإن هذه الأسئلة التي تبدو
ومن النظرة الأولى إنها بعيدة عن مشاغل الحياة اليومية هي في
الحقيقة ليست ترفاً فكرياً
.. أو فضولاً فارغاً .
بل هي ضرورة لابد منها تفرضها علينا معاناتنا
وألمنا..
ويدفعنا إليها الأمل في الخلاص من المعاناة .
فتماماً كما أنه لا يمكن إبراء الجسد من مرض إلا بالمعرفة
الواسعة عن طبيعة الجسد وتركيبه وأعضاءه وعلاقته بمحيطه ..
كذلك الأمر لا يمكن الخلاص من المعاناة إلا بالبحث عن
إجابات عن هذه الأسئلة ..
لا يعد البحث عن إجابات عن هذه الأسئلة والكثير غيرها
ترفاً فكرياً كما يظن من لا يعلم ..
بل تصبح ضرورة لابد منها إذا أراد الإنسان الخلاص من
معاناته .
لهذا السبب فإن المعرفة والبحث والتأمل والتفكر ضرورة
لابد منها
في هذا القسم تحدثنا عن السبب والدافع للبحث
الفلسفي وتبين لنا أن المعاناة التي يشعر بها الإنسان هي الدافع
لذلك .
المعاناة تسبب الألم ..
الألم يدفع للتفكر والتأمل والبحث في الوجود
وفي الكون والنفس..
التأمل والتفكر يؤديان إلى المعرفة .. المعرفة تنهي المعاناة ..
إن ما يهمنا أن يعلمه
القارئ هنا هو أن حديث الحكماء عن المعاناة وحقيقتها هي ليست نظرة
تشاؤمية للحياة ولا هي دعوة للهروب من الحياة كما قد يظن من لا
يعلم ..
على العكس تماماً !
الحكماء هنا كالعلماء يواجهون أمراً واقعاً ويحاولون اكتشاف سبب للتخلص
منه .
كون أن هناك معاناة هي حقيقة واقعه وليست هي رأي للحكماء ..
الحكماء يعترفون بهذه الحقيقة الواقعة ويعملون على البحث عن خلاص منها
بالمعرفة .
المتشاءم هو الذي توقف عن البحث لأنه لا أمل له بالخلاص من معاناته . الحكماء يسعون للمعرفة لأنهم يعلمون أن هناك حل وهناك خلاص من المعاناة .. لا يكون ذلك بالهروب بل بالمواجهة. هذا الخلاص الذي يتوصل إليه الحكماء من خلال المعرفة يجعل من تجربة الحياة الحالية تجربة أكثر غنى وتفاؤلاً وسعادة .
إن الفارق الذي يفصل الحكماء والسالكون على دربهم عن بقية البشر هو أن
الحكماء يسعون للوصول إلى السبب الحقيقي والعميق للمعاناة ..
يسعون إلى إيجاد منبع المعاناة ..
يسعون إلى القضاء على أصل المرض لا على أعراضه .
لذا هم لا يتوقفون حيث يتوقف الآخرون بل يواصلون البحث عن
السبب الأعمق .
وهذا لا يمكن إلا من خلال الفهم العميق لمعنى المعاناة و حقيقتها ..
وقد علمنا إن البشر يختلفون فيما بينهم في فهم
معنى وسبب المعاناة ..فهم على مستويات في فهم معاناتهم.
ولكن لماذا هم على مستويات في فهم المعاناة ؟
لماذا يظن البعض ألا معاناة ويظن البعض أن
معاناتهم تنتهي عند الحصول على هذا الشيء أو ذاك بينما يرى آخرون
إن هناك شيء ما في أنفسهم
يسبب المعاناة؟
لماذا يسعى البعض للمعرفة ولا يكترث البعض
الآخر؟
الإجابة على ذلك بأعمار الأنفس
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |