|
في الممارسة – طريق الخبرة المباشرة
القلب – مركز الانتباه
لا يمكن لمرء أن يرى شيئاً إلا عندما يوجّه
نظره إليه .
ولا يمكن لمرء أن يسمع شيئاً إلا عندما يصيغ
السمع له .
عندما يكون المرء مستغرقاً تماماً في التفكير
في أمر ما فهو لن يرى حتى ما يوجد أمامه من أحداث، فمثلاً عندما
يبحث الإنسان عن شيء ما مفقود وهو يفكر في أمر آخر فإنه لن يتمكن
من رؤية ما يبحث عنه حتى لو كان أمامه مباشرة .
وعندما يحادث المرء شخصاً آخر ولكنه في نفس
الوقت يفكر بشيء آخر فإنه لن يسمع كلمه مما قاله مخاطبه !
السبب في ذلك هو الانتباه .
الانتباه هو سمة من سمات الوعي ، الانتباه هو
المركز الذي يوجه المرء وعيه إليه .
الانتباه هو بوابة الوعي .
عندما يوجه المرء انتباهه لغرض ما فهو يسمح له
بالدخول إلى وعيه .. يصبح قابلاً للإدراك .
لهذا السبب فإن من يبحث عن شيء ما وهو يفكر
بشيء آخر فإنه لن يراه على الرغم من أنه أمامه تماماً وفي مدى
إدراكه البصري .. لأن المرء عندما يفكر في أمر آخر فهو يغلق باب
الوعي أمام الشيء الذي كان يبحث عنه لهذا فهو لن يراه حتى وإن كان
أمام عينيه مباشرة.
يمكن تشبيه الانتباه بأنه العيان الذي يوجد في
المنظار .
يقول الحكماء أن مركز الانتباه هو القلب لا
الدماغ كما قد يعتقد الكثيرون .
يقول الحكماء أن ما يوجه ويسيطر على الانتباه
هو القلب .
القلب هو مركز الاهتمام ..هو مركز
الهم .. هو مركز الارتباط العاطفي .
فما الذي يدفع المرء للتفكير بأمر ما في الوقت
الذي يبحث فيه عن شيء ما ؟
لأن همه في شيء آخر .. لأنه مرتبط عاطفياً في
الشيء الذي يفكر فيه .. لأن قلبه متجه لشيء آخر.
والقلب هو الذي يوجه الانتباه وبالتالي هو
الذي يفتح بوابه الوعي .
يؤكد الحكماء دائماً إن القلب هو مركز
الانتباه وليس الدماغ .
القلب عند الحكماء أكبر أهميه وأشد غموضاً من
الدماغ .
في حدود المعرفة الشائعة الحالية فنحن نفصل
بين الأفكار والمشاعر .. بين الأفكار والعواطف .
والبشر في حدود المعرفة الشائعة الحالية يولون
الاهتمام للأفكار ويتجاهلون المشاعر أو يضعونها في درجة أقل من
الأهمية .
ليس هذا ما يقوله الحكماء .
يؤكد الحكماء أنه لا يوجد شيئين .. أفكار
ومشاعر .
هناك شيء واحد فقط .. هناك وعي .
لا أحد يعلم ما هو الوعي !
وكما ذكرنا من قبل فإن الوعي هو سمة من سمات
الكائن الواعي وهو أمر غاية في الغموض والغرابة .
والقلب هو مركز هذا الوعي .
فعندما يتحدث الحكماء عن القلب فهم لا يقصدون
العضو الموجود في الصدر بل مركز الوعي .. مركز الاهتمام .. مركز
الارتباط العاطفي .
ويؤكد الحكماء أن هناك ارتباط بين مركز الوعي
هذا وبين العضو الموجود في الصدر .
يمكننا أن نشبه العلاقة بين القلب والدماغ كما
يشرحها الحكماء بالعلاقة بين الإنسان وجهاز الكمبيوتر .
الدماغ هو جهاز الكمبيوتر .
القلب هو الإنسان الذي يبرمج الكمبيوتر ويوجهه
ويسيطر عليه .
جهاز الكمبيوتر يعمل من خلال برامج .. من خلال
سلسلة من التعليمات المحددة بدقة .. من خلال خوارزميات .
أما الإنسان فلا أحد يعلم كيف يعمل!
الإنسان المستغرق في العالم الذي يظن انه هو
الطبقات التي تكوَن شخصيته هو أشبه بالآلة التي تعمل استناداً إلى
برامج محددة سابقة .
هي برامج وضعها المحيط الذي يحيط بالإنسان
الذي دخل الشبكة .
هذا الإنسان يعمل ويتفاعل مع الواقع الذي
يدركه من خلال هذه البرامج .
أما الإنسان الذي يعلم أنه شيء أكبر من ذلك
بكثير والذي يسعى لمعرفة ذاته فهو الإنسان الحقيقي .
ولأن الحكماء يعلمون حق العلم أهمية القلب
ودوره في الوعي والإدراك فإن تقنيات وتعاليم طرق الحكمة على
اختلافها تولي القلب الاهتمام الذي يستحقه .
تسعى كل طرق الحكمة على حث السالك على توجيه
السالك لمشاعره وعواطفه باتجاه الهدف الذي يسعى إليه في رحلته
الروحية .
تقنيات وتعاليم طرق الحكمة تسعى دائماً إلى
توجيه القلب باتجاه الهدف .
وكما أن الإنسان لا يمكن أن يرى شيء إلا عندما
يوجه اهتمامه إليه ..
كذلك فإنه لا يمكن للسالك من مشاهدة الواقع
كما هو إلا عندما يوجه اهتمامه إليه .
"فكيف
تتوقعون أن تشاهدوا شيئاً وأنتم توجّهون نظركم لشيء آخر؟ .. ما هذا
الهراء؟!! "
هكذا يسأل الحكماء.
توجه القلب باتجاه الواقع المدرَك المحدود
الذي نعيش فيه هو السبب في أن طريق الحكمة ليس لذوي الأنفس
الطفولية والأنفس الشابة .
وذلك لأنه وبسبب مستوى النضج المتدني لأصحاب
هذه الأنفس فإن كامل اهتمامهم موجه بالكلية للعالم الخارجي لا
الداخلي.
حتى إن حدثّت أحد أصحاب الأنفس الشابة عن
الواقع كما هو وعن طريق الحكمة وحتى وإن تقبل هذه المعرفة تقبلاً
حسناً فإنه سيعود في اليوم التالي وقد نسي كل ما قيل له ..
وإن كررت له ذلك كثيراً ..سيعود وينسى كثيراً!
السبب في ذلك هو مركز الاهتمام ..هو القلب .
مازال ذو النفس الشابة يعتقد أن ما يبحث عنه
هو في خارج ذاته لا في داخله .
فقلبه ومركز اهتمامه موجه للخارج .
يعلم الحكماء أنه لا
فائدة مع هؤلاء!
سيتركونهم للشبكة وبعد الكثير من المعاناة
والتجارب المريرة سيعلمون أن ما يبحثون عنه هو في داخلهم .
عندها فقط يمكن للحكماء أن يتحدثوا معهم.
يوجه الحكماء والمعلمين اهتمامهم للسالك على
بداية الطريق .
فالسالك على بداية الطريق هو في حال من يقف
على مفترق طرق ..
لقد وصل إلى مرحلة من النضج بحيث إنه أصبح
مدركاً أهمية طريق الحكمة وحتمية الرحلة الروحية .
ولكن وبسبب قوة الطبقات التي تغلف وعيه ولأنها
مستحكمة بقوة وشدة في نفسه وذهنه فمازال جزءاً هاماً منه يوجه
انتباهه للخارج .. للعالم الخارجي .
الشبكة تجذبه بقوة شديدة لتمنعه من الخروج .
هناك الكثير من الأسباب والدوافع التي تحثه
للتخلي عن هدفه .
جسده .. شخصيته .. طبقات الوعي المستحكمة في
نفسه ..عائلته .. مجتمعه .. كل ما يحيط به ..كل ما يعرفه ..كل ما
تعلمه .
وهي أسباب موجودة في طبيعة الشبكة نفسها .
الشبكة هنا تجذبه بشدة لأن هذه هي طبيعتها .. تماماً كما أن الأرض تجذب كل ما يحاول أن
يبتعد عنها.
ليس ذلك فحسب ..
هناك شيء آخر..
هناك من هو حريص أشد الحرص عن قصد ونية مسبقة
لمنع أي إنسان للخروج من الشبكة .
هناك من له هدف ومصلحة مباشرة في إبقاء
الإنسان داخل حدود الشبكة .. داخل جدران السجن ، وهو يعمل بحرص
ومكر شديدين لتحقيق هذا الهدف .. وهو الأمر الذي سنتحدث عنه لاحقاً
.
في مواجهة كل هذا الضغط الهائل يبقى السالك
حائراً مشتت الذهن والنفس .
لذا فالحكماء والمعلمون حريصون أشد الحرص على
توجيه اهتمام السالك في اتجاه الهدف الأسمى الذي يسعى الآن للوصول
إليه .. وهو الخروج من الشبكة ومشاهدة الواقع كما هو والخلاص من
المعاناة .
والتقنيات والتعاليم الذهنية والنفسية التي
يحث عليها الحكماء والمعلمون تهدف لتحقيق هذا الغرض بالذات .
وهي تمارين وممارسات يقوم بها السالك والغرض
منها توجيه القلب نحو الهدف لأنه الشرط الأساسي الذي لابد منه
للمشاهدة .
فلا يمكن مشاهدة شيء إلا بتوجيه الانتباه له
..
ولا يمكن توجيه الانتباه لشيء إلا بتوجيه
القلب نحوه .
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |