فيلم سينمائي تدور فكرته حول السعي للخلود وتحدي الموت من خلال ثلاث قصص متداخلة ببراعة تسعى شخصيات كل قصة للبحث عن طريقة لتحدي الموت ، موت أسبانيا وموت الزوجة وموت شجرة الحياة ينتهي الفيلم بالاعتراف أن الموت جزء من الحياة , وإنهما معا يمثلان ينبوع الوجود المحدود عندما يتم الوصول لهذه الحقيقة بعد معاناة شديدة تنتهي فصول القصة ، قصة الحياة الفانية لتبدأ الحياة الخالدة يشير هذا الفيلم لما يتحدث عنه الحكماء بضرورة استغلال الإنسان لحياته لتجاوز الحياة المحدودة والوصول للخلود بالعودة للمصدر الأول ولن يتم ذلك إلا بعد المعاناة والجهاد في استكشاف النفس والعالم |
في الممارسة – طريق الخبرة المباشرة
مسيرة الحياة – ميدان التدريب والتقييم .
كل إنسان في هذه الحياة له فكرة أو تصور عن الحياة وعن ما يدور
فيها ..
هناك فكرة ما ..اعتقاد ما يكون لدى كل إنسان عن كل ما يحيط به .
كذلك يكون لدى كل إنسان اعتقاد أو
تصور ما عن الأشخاص المحيطين به والذي يتعامل معهم ..
"هذا الشخص اعتقادي فيه أنه شخص كريم وحسن الخلق .. وذاك مغرور
ومتكبر .. وذلك شرير يجب الاحتراس منه .. وهذا ثقة يعتمد عليه" ..
الخ
تتعدل هذه الاعتقادات تبعاً لتغير الأحداث والخبرات
..
فقد يكتشف هذا الإنسان إن من اعتقد أنه ثقة يُعتمد عليه هو في
الحقيقة كاذب ومنافق وهذا ما تبين له من خلال خبرته معه ..
وقد يتبين إن من ظنه مغروراً ومتكبراً هو إنسان خجول وحساس وهو في
الحقيقة دمث الخلق وصادق النية ..
تبدُل المعتقدات والأفكار والتصورات يحدث طوال الوقت مع كل إنسان
.. ولكن كيف يحدث ؟
يحدث من خلال التفاعل والخبرة .
من خلال تفاعل الإنسان مع هؤلاء الأشخاص يكتشف الإنسان اعتقادات عن
الآخرين كانت خافيه عنه للوهلة الأولى .
كلما اختبر إنسان الآخرين أكثر كلما اكتشف عنهم أشياء أكثر ..
كلما تفاعل إنسان مع الآخرين بمواقف أكثر عدداً وأكثر تنوعاً في
الشدة كلما تغيرت معتقداته عنهم وتصوراته فيهم .
وكثيراً ما يكتشف المرء صفات في أشخاص تصدمه وتؤثر فيه تأثيراً
شديداً !
أشخاص كان يثق بهم ولسنين طويلة يتبين أنهم ليسوا في محل هذه الثقة
.. يحدث ذلك كثيراً !
ولا يتبين ذلك إلا من خلال التفاعل مع الآخرين والتعامل معهم في
مواقف وظروف حياتية مختلفة ومتنوعة في شدتها وتفاصيلها .
فالحياة والأحداث التي تحدث بها في يسرها وعسرها .. في فرحها
وترحها هي الميدان الذي من خلاله يكتشف المرء ما خفي عنه من صفات
الآخرين ..
ومن صفات نفسه أيضا .
فكما أن المرء له اعتقاد عن صفات من يحيط به فهو بالأولى له اعتقاد
عن نفسه هو .
وكثيراً ما يخطئ في كلا الاعتقادين !
فالإنسان في الغالب اعتقاده عن نفسه دائماً إيجابياً .. هو شجاع
وكريم وحسن الخلق وقوي وذكي .. الخ
ولكن من خلال خبرات الحياة والتفاعل في الأحداث الذي تحدث له .. في
المآسي والآلام .. في الصعوبات والمشقات .. في اليسر والعسر .. في
الأفراح والأتراح .. في الواجبات والمسؤوليات .. في الحقوق
والاستحقاقات .. تنكشف صفات النفس أكثر ويظهر ما كان خافياً منها .
فالحياة هي الميدان الذي يكشف ما خفي من صفات الآخرين وما خفي من
صفات النفس .
فالحياة لو كانت هادئة وهانئة للمرء ولمن يحيط به فهو لن يرى منهم
إلا جانباً واحداً من صفاتهم .. ستظل الصفات والاعتقادات التي
كوّنها المرء عن نفسه وعن الآخرين كما هي ..
الظروف متشابهة ..
والصفات التي تبدر عن النفس والآخرين ستظل بالمحصلة متشابهة .
ولكن الحياة لا تأتي بوتيرة واحدة .. الحياة تأتي بأشكال لا تعد
ولا تحصى .. فوران من الأحداث التي تعصف بالمرء ومن يحيط به ..
صعوبات ومشقات .. احتكاك وخلاف .. حاجة وضنك ..مشاكل ومصائب ..
رتابة وملل ..
هذه الأحداث وهذا التنوع فيها هو ما يكشف ما في النفوس ويُظهر ما
خفي منها .
ولكن ..
في مسيرة الحياة وفي هذا الهيجان من الأحداث ونتيجة للجهل فأغلب
البشر يكون اهتمامهم مرتكزاً حول النجاة بالنفس .. تجنب الصعاب
والمشاق .. الهرب من الواجبات والاستحقاقات التي تتوجب عليهم ..
يتمنى أغلب البشر أن تكون حياتهم خالية من المشقات والصعوبات ..
هادئة وهانئة .. بعيدة عن الواجبات والمسؤوليات .
هذا ما يتمناه أغلب البشر .
ولكن ليس هذا ما يعلّمه الحكماء !
يقول الحكماء للسالكين على طريق الحكمة والساعين للخروج من الشبكة
واختبار الواقع الحقيقي والفعلي أن الحياة التي نعيشها في مستوانا
الوجودي هي كلها حلم .. وهم .. ولكنه ليس حلماً عبثياً أو وهماً
زائفاً بلا قيمة .
على العكس تماماً !
يقول الحكماء أن الحياة التي يعيشها الإنسان هي فرصة ثمينة .. شديدة
الضرورة .. و بالغة الأهمية .
لماذا ؟
لأنه من خلال التفاعل في الحياة يكتشف الإنسان لنفسه ما خفي من
صفات نفسه .
لن يكشف الإنسان صفاته ومكونات ذاته إلا من خلال التفاعل في الحياة
والتعامل مع الأحداث التي تحدث بها .. لا يوجد حل آخر .. ولا توجد
طريقة أخرى .
ظُن عن نفسك ما تشاء واعتقد عن نفسك ما تريد .. لن يكون هذا
الاعتقاد صحيحاً إلا إذا تم اختباره فعلياً على أرض الواقع .. من
خلال الحياة ومن خلال التفاعل مع أحداثها .
الحياة كما قلنا هي الميدان التي يختبر بها السالك نفسه ويقيّمها .
فقط عندها يستطيع المرء أن يكشف نفسه ويكشف ما خفي عن نفسه .
كما قلنا في الموضوع السابق فإن السالك الساعي لاختبار الواقع
الحقيقي عليه أن يخترق الطبقات التي تُغلف وعيه والتي تكوّن الشبكة
التي تمنعه من اختبار الواقع الموجود معه هنا والآن ..
ولن يتمكن من اختراق هذه الطبقات إلا إذا اكتشفها .. ولن يكتشفها
إلا من خلال التفاعل في الحياة .. إلا من خلال مسيرة الحياة .
هذه هي أهمية الحياة وهذه هي قيمتها ..
هي أداة يستعين بها السالك للكشف عن مكنونات نفسه وتجاوز واختراق
الحدود والطبقات التي تغلف وعيه وتحبسه داخل هذه الشبكة . دون هذا الهدف فلا قيمة ولا معنى للحياة ..
هكذا يتحدث الحكماء !
يُعلّم الحكماء السالكين على طريق الحكمة إن حياة كل إنسان هي
محدودة ومنتهية حتماً سواء أمضاها المرء في هناء وسعادة أم في
شقاء وعسر .. هي منتهية في كل الأحوال .
لن يكون لهذه الحياة قيمة ولا معنى إلا إذا استُخدمت في تجاوز
الحياة نفسها من خلال اختراق الشبكة واختبار الواقع كما هو .. وهو
واقع لا محدود ولا
منتهي
.
وبهذا يكون المرء قد فاز من الحياة في الواقع المحدود بما يتجاوز
الواقع المحدود .
إن حياة كل إنسان هي محدودة ومنتهية .. هذا أمر واقع لا شك فيه .
ما يقوله الحكماء هو أنه يمكن استغلال هذه الحياة المحدودة
لتجازوها والوصول لحياة غير محدودة وغير منتهية موجودة معنا هنا
والآن ..
هذا الواقع غير المحدود وغير المنتهي لا يوجد هناك في مكان بعيد ..
ولا يوجد في زمان آخر بعيد ..
بل هو معنا هنا والآن .. في هذا المكان وفي هذه اللحظة ..
ما يمنعنا من اختباره كما قلنا هو طبقات الوعي التي توقعنا في
حبائل الشبكة وتجعلنا من خلال هذه الشبكة نعيش حياة محدودة ومنتهية
.. ونحن نعلم أنها محدودة ومنتهية .
ما يقوله الحكماء هو انه يمكن استغلال هذه الحياة المحدودة
المنتهية للوصول للحياة اللامحدودة و اللامنتهية ..
والحُمق كل الحمق باستغلال الحياة لأي شيء آخر !
وكما قلنا فإن أغلب البشر في مسيرتهم في الحياة يكون همهم مرتكز
على النجاة بالنفس وعلى التكيف مع أحداث الحياة ومحاولة تغييرها
بما يؤدي للاستمتاع والحياة الهانئة البعيدة عن المنغصات والمشاق
..
لذا فإن أغلب البشر يكون تفاعلهم مع الحياة مرتكز على الفعل ..
دون الاكتراث للانتباه لصفات أنفسهم التي تتكشف لهم شيئاً فشياً ..
أغلب البشر لا يكترثون إلا لما يحدث لهم خارج أنفسهم .
يقول الحكماء إن ذلك ناجم عن النقص في النضج لهؤلاء البشر وهو
نتيجة طبيعية لعمر النفس الخاص بهم ..
لهذا فالحكماء لا يتحدثون مع هذه الفئات من البشر لأنه لا فائدة
معهم .
يُعلّم الحكماء السالكين الذي لم يختاروا السير على طريق الحكمة
إلا بعد أن نضُجت أنفسهم أن لا يكترثوا في تفاعلهم مع الحياة على
الفعل بقدر ما يكترثوا للفهم ..
الفهم .. قبل الفعل .
لا يهم ما يحدث للسالك خارج نفسه لأنه زائل في كل الأحوال .. بل ما
يهم أن يفهم السالك ما يحدث داخل نفسه ويعرف ما خفي من صفات ذاته
..
عليه أن يكون اهتمامه موجهاً نحو الداخل لا الخارج .. لأنه لا
خروج إلا بالدخول .
لهذا فعلى السالك أن يهتم كل الاهتمام بمعرفة صفات نفسه والدوافع
التي تدفعه لفعل ما يفعله ..
لماذا أفعل ذلك الفعل ؟
لماذا أريد ذاك الشيء ؟
لماذا أتألم لهذا الحدث ؟
من خلال هذا الانتباه وهذه التحرّي يتمكن السالك من معرفة الطبقات
التي تكوّنه والتي تُغلف وعيه والتي تم زرعها فيه من خلال الوالدين
والمجتمع .
من خلال هذا الانتباه وهذا التحري يكتشف السالك الطبقات التي تمنعه
من اختبار الحياة اللامحدودة و اللامنتهية والموجودة معه هنا والآن
.
عندما يعرفها سيتمكن من تجاوزها واختراقها كما يتعلم من الحكماء .
ولا يمكن أن يحدث هذا الفهم وهذه المعرفة إلا من خلال انخراط
السالك في الحياة والتفاعل مع أحداث الزمان .
يتعلم السالكون من علم الحكمة أن الحياة التي يجد الإنسان نفسه
فيها ليست خبط عشواء أو مجرد مصادفه عمياء .
أنت تنتمي لهذا الجنس .. في هذه الأمة .. من هذه الثقافة .. من هذا
الدين ..في هذا الزمان .. في هذا المكان .. في هذه الأسرة .. وفي
هذا الجسد .
ليس كل ذلك مصادفة أو خبط عشواء .
ما يُعلّمه علم الحكمة أن كل نفس تدخل هذه الحياة .. كل نفس تدخل
هذه الشبكة فهي تدخل في محل وظروف متطابقة تماماً لما يجب عليها
تخطيه .
الحياة التي يجد الإنسان نفسه فيها هي تحدي حقيقي .. هذا ما يقوله
الحكماء .
وكل إنسان كما بيّنا يدخل هذه الحياة من خلال طبقات تختلف عن غيره
.. كل إنسان عليه أن يواجه طبقاته هو بالذات .
والإنسان يجد نفسه في حياة تستدعي ظروفها أن يصحح ويُعدّل صفات
معينة ومحددة في نفسه تختلف من إنسان لآخر .
والأمر يعتمد هنا وبشكل أساسي على عمر النفس وعلى مستوى نضجها
وتطورها .
فالنفس الجبانة المتمسكة بالحياة في الواقع المحدود ستجد نفسها
تعيش في ظروف قد تفرض عليها فرضاً أن تعيد النظر بهذا الجبن وهذا
التمسك .. ستفرض عليه الحياة التي سيجد ذاته بها أن يواجه ذلك
مواجهة مباشرة ..
والنفس المغرورة المتعجرفة قد تجد نفسها تعيش في ظروف ستجبرها
جبراً على كسر هذا الغرور وتحطيم هذه العجرفة الناجمة عن الجهل ..
وستفرض عليه الحياة التي ستجد ذاته بها أن تواجه ذلك مواجهة مباشرة
.
وقد تجد النفس إنها تعيش بنوع من الحياة يُفرض عليها بها العزلة عن
أحداث المجتمع وكأنها خارج الحياة لا داخلها .. ومهما حاولت هذه
النفس تجنب ذلك فإن الظروف تتشكل بطريقه غامضة وغير مفهومة تعيد
هذه النفس لحياة العزلة هذه ..
تواجه هذه النفس هذه الحياة بالإحباط والحزن والغضب ..
يحدث ذلك كثيراً لذوي الأنفس الناضجة !
هذا النمط من الحياة يفرض على النفس فرضاً التأمل والفهم .. تكون
هذه النفس مطالبة في تأمل الحياة ومراجعة كل شيء ومحاولة البحث
والفهم لمعرفة معنى الحياة ومعنى كل شيء .
وهكذا مع كل صفه وكل سمة من سمات النفس .
ستجد كل نفس أن الحياة التي تنخرط بها تفرض عليها مواجهة سمات
محددة فيها تختلف من نفس لأخرى تجبرها على مواجهة عيوبها وتصحيح
أخطاءها بعد أن تكشفها وتعلمها .
طوعاً أو كرهاً !
فالأنفس وكما تحدثنا في قسم أعمار الأنفس مجبرة على التطور والتقدم
وظروف الحياة لكل نفس تأتي دوماً بما يدفع لهذا التطور وهذا التقدم
..
وكما ذكرنا هناك فلو يترك المرء ونفسه فلن يفعل شيئاً !
الحياة التي سيجد الإنسان نفسه بها .. والطبقات التي ستغلّف وعيه
هي التي ستحدد له ما عليه فعله وما عليه مواجهته وما عليه تجاوزه .
هذه الظروف تأتي متنوعة بما لا يمكن حصره ولكنها تأتي متطابقة مع
كل نفس على حدة .
بعض الأفراد تكون حياتهم بالمجمل هادئة وهانئة .. ومهما عاكستهم
ظروف الزمان ومهما حدث معهم تعود حياتهم لمسارها الهادئ والهانئ ..
يعتبر هؤلاء الأفراد لدى أغلبية البشر بأنهم محظوظون .
وبعض الأفراد تكون حياتهم بالمجمل شاقة وعسيرة .. ومهما حاولوا أو
بذلوا من جهد تتعسر في وجوههم أبسط الأحداث .. يُعتبر هؤلاء
الأفراد لدى أغلبية البشر بأنهم قليلو الحظ .. منحوسون .. الخ
ليس هذا ما يعتقده الحكماء والعارفون لماهية الواقع .
يقول الحكماء أن الأفراد الذين يبذلون جهداً كبيراً وعلى
الرغم من ذلك تلاحقهم المشاق والمناحس هم في الحقيقة محظوظون
جداً !
لأن هذه المشاق هي التي تفرض عليهم التطور بسرعة كبيرة وتخطي
الكثير من المراحل وتجنب الكثير من الآلام التي لا يعلمون أنهم
يتخطونها ..
والآلام التي يتجنبونها بذلك هي أشد وأعظم وأطول مما واجهوا بكثير
.
فكما يعلم الحكماء فإن الهناء والسعادة لا تعلّم الكثير .. أما
المشاق والمصاعب .. العثرات والفشل .. الإحباط والحسرة فهي ما يدفع
للتطور .
وكما ذكرنا في قسم المعاناة فإن الألم هو ما يدفع للبحث والتحري ..
والبحث والتحري هما ما سيؤديان إلى الخروج من الشبكة وتحقيق الهدف
الأكبر بالخلاص من المعاناة وتحقيق السعادة المطلقة الموجودة
معنا هنا والآن كما سنوضح لاحقاً .
إن هذا الفهم للحياة لا يفهمه إلا الحكماء والسالكين على دربهم .
وهو ليس رأي الحكماء عن الحياة .. بل هذا ما يعلمه الحكماء من خلال
خبرتهم التي اختبروها عندما تمكنوا من تجاوز الواقع المحدود
واختبار الواقع خارج الشبكة .
الحكماء لا يقولون لنا رأيهم في الحياة .. هم يصفون لنا الحياة كما
هي بالفعل .
الحياة هي ميدان يختبر الإنسان نفسه بها ويقيّم نفسه من خلالها .
الحياة هي مدرسة يتعلم فيها الإنسان .. تعلم النفس فيها ما خفي
عنها من صفاتها .
هذا ما يقوله علم الحكمة ومن لا يصدق عليه بالتجربة والسير على
طريق الحكمة وسيرى ذلك بنفسه ومن لا يريد سيجبر على ذلك شاء أم أبى
.
على أية حال يمكن التثبت بسهولة مما يقوله الحكماء عن طبيعة الحياة
وأهمية المشاق والصعوبات حتى لمن لا يكترث للحكمة ولا لطريقها !
فالتاريخ وخبرات الحياة تعلّمنا بكل وضوح إن أكثر البشر انجازاً
ونجاحاً هم من تعرضوا في حياتهم للكثير من المشاق والصعوبات .
وإن أعظم الإنجازات في تاريخ البشر لم تأت إلا بعد الكثير من
المعاناة والألم .
كل ذلك نعلمه في واقعنا المدرَك .. في تاريخنا وفي حياتنا .. من
داخل الشبكة .
كل ما هنالك فإن علم الحكمة يقول لنا بأن ما يصح لما هو داخل
الشبكة يصح أيضاً لما وراءها !
علم الحكمة يؤكد أن الحياة الشاقة والعسيرة التي يعيشها المرء على
الرغم من كل جهوده التي يبذلها هي في الحقيقة حياة بالغة الأهمية
.. وذات قيمة عالية لا تقدر بثمن لأنها تمكّن النفس من التطور
بسرعة وتخطي الكثير من المراحل الطويلة والمؤلمة .
إن من يفهم معنى الحياة وأهميتها والغاية منها كما يُعلّم علم
الحكمة ستتغير تجربة الحياة
لديه تغييراً جذرياً ..
وهذا ما يحدث للسالكين بعد المران الطويل !
إن السالك يعلم الآن إن الحياة هي تحدي ..
هو لا يتوقع منها بعد ما تعلّمه أن تكون هادئة هانئة ..
بل إنه لا يريدها كذلك !
هو يريد أن يتحدى نفسه .. أن يعرف نفسه .. أن يستكشف نفسه.. وأن
يختبرها ..
لأنه يعلم أن هذا التحدي وهذا الاستكشاف هو الذي سيمكّنه من تجاوز
الواقع المحدود واختبار ما هو لا محدود .
بل إن هناك أمر شديد الغرابة ..!
فإن هذا الاعتقاد وهذا الفهم للحياة ومعناها وعندما يستحكم في
نفس السالك ويتثبت في أعماقه بعد طول المران سيؤدي لتغيير
الحياة التي يواجهها السالك تغييرًا حقيقياً .
الحياة نفسها ستتغير وهو أمر حقيقي وفعلي .
ستتحول هذه الحياة المفعمة بالأحداث والمشاق والتي تظهر كوحش كاسر
يخيف البشر ويرعب الناس ، سيتحول هذا الوحش الكاسر أمام السالك و
بشكل مفاجئ بل وبشكل سحري وغريب إلى كائن ضعيف .. رقيق وأليف !
والحياة التي ظنها السالك في بداية سيرة على طريق الحكمة أنها نمر
كاسر .. ستظهر على حقيقتها كدمية من قش على شكل نمر كاسر !
نمر من ورق وقش هش !
إن هذه حقيقة لا يعلمها إلا الحكماء والسالكون . وهي مرحلة لا يختبرها السالكون إلا في مستوى متقدم من مسيرتهم على طريق الحكمة .. وهم يشاهدون بأم أعينهم كيف تتحول الحياة أمامهم بفعل هذا الفهم . أما السالكون الأقل درجة فهم يختبرون ذلك كتجارب ومصادفات مفاجئة تحدث لهم في حياتهم دون أن يفهمها أكثرهم .
إن هذه
حقيقة فعلية سنتحدث عنها أكثر لاحقاً .
عندما يُنظر للحياة كاختبار وتحد .. وعندما تستعد النفس لمواجهة
هذا التحدي وترغب به ولا تخشاه ستتحول أغلب تجارب الحياة إلى تجارب
مثيرة للاهتمام والفضول .. وهي في أغلبها تتحول إلى تجارب ممتعة
وملفتة للانتباه !
وحتى التجارب الصعبة والقاسية التي تواجه السالك كموت الأقرباء
والأعزاء أو المرض أو الجوع أو غيرها من التجارب القاسية ، بفضل
هذا الفهم ستخف بشدة قسوتها .. وستقل بقوة سطوتها مما يمكن
السالك من مواجهتها وتخطيها بشجاعة وصبر وهدوء .
يظهر للسالك تدريجياً .. وبعد الكثير من التجارب الصعبة والقاسية
.. ومن خلال السير بإصرار وعناد وشجاعة على طريق الحكمة أن المشكلة
ليست في الحياة نفسها ..
بل المشكلة فيما نتوقعه نحن من الحياة ..
إذا توقعنا من الحياة وترقبنا منها أن تأتي لنا بشيء ما
نحدده نحن ونرسم معالمه ثم لم تأت به
الحياة تبدأ المعاناة .. ويبدأ الخوف .. ويبدأ الألم . هذا التوقع سببه طبقات الوعي التي تُغلف وعي السالك والتي يتم زرعها فيه .. وهي التي تحدد للسالك ما يجب أن يرغب به وما يجب أن يتمناه .
هذه الطبقات هي نفسها التي يجب تخطيها .
أما عندما ننظر للحياة كتحدي لا نتوقع ولا نرجو ولا نريد منه إلا
إن نواجهه وننتصر فيه .. عندها تزول أغلب أشكال المعاناة وتخف بشدة
مصاعب الحياة وآلامها .
أهم ما يعلّم الحكماء السالكين عن الحياة وأحداثها هو التعلم ..
وعدم التوقف .
مهما واجه السالك من صروف الحياة وأحداث الزمان .. ومهما بدت
الأحداث شاقة وصعبة فلابد للسالك أن يتذكر دوماً أن ما يهم هو ما
تعلمه السالك عن الحياة وعن نفسه من خلال هذه الأحداث ..
نتائج الأحداث نفسها لا تهم .. ما يهم هو ما تتعلمه منها عن الحياة
وعن الذات .
كل شيء آخر لا يهم .. لأن كل شيء آخر زائل حتماً .
على السالك أن يتذكر دوماً أن الأحداث والنتائج المترتبة عنها مهما
كانت ومهما بدت صعوبتها هي زائلة ..
وأن هذه الأحداث ونتائجها وجدت هي نفسها لغرض واحد فقط .. التعلم .
الغرض من الحياة هو التعلم .
لهذا فإن من الضرورة البالغة أن لا يتوقف السالك عند أي حدث
كائناً ما كان ..
عليه أن يتخطاه ..
عليه أن يتجاوزه ..
عليه أن ألا يقف عنده أبداً ..
تابع المسير بشجاعة ولا تخش شيئاً .. ولا تأس على شيء ..
فكل شيء في الشبكة زائل حتماً وهو وجد من أجل التعلم .. فقط لا غير
.. ولا غرض آخر من وجوده إلا التعلم .
هذه هي الحقيقة الكبرى للحياة التي يعلّمها الحكماء .
وسواء كان المرء معنياً بالحكمة وطريقها أم لم يكترث لها فإن هذه
الحقيقة لا يمكن إنكارها .
لا يمكن إنكار أن كل حدث وكل نتيجة هي في النهاية زائلة .. هذه
حقيقة .. هذا أمر واقع .
مهما حدث للمرء .. ومهما نال من هذه الحياة فهو
منتهي
وزائل حتماً
بالموت .
كل ما هنالك أن الحكماء يُعلمون أن هناك ما يتجاوز كل ذلك .. وهو
الواقع الفعلي الموجود هنا والآن .
من لا يعلم الواقع الفعلي .. ومن يظن أنه لا يوجد سوى الشبكة
سيتألم عظيم الألم للأحداث التي تواجهه في هذه الحياة ..
سيتوقف عند كل تجربة صعبة يمر بها .. وسيتوقف عند كل خبرة أليمه
تمر به .
ليس الحكماء .
وليس السالكين على طريق الحكمة .
فالحكماء لا ييأسون ولا يأسون ..
ولا يحزنون ولا يخافون .
والسالكون يسعون للوصول لذلك جهدهم
ليس السبب في ذلك أن الحكماء لا شعور لديهم .. بالطبع لا .
فلا يوجد من هم أشد حساً وأقوى شعوراً من الحكماء .. لا يوجد ولن
يوجد .
فكما أوضحنا من قبل في قسم المعرفة فإن هذا الحس المرهف لدى
الحكماء هو ما يجعلهم حكماء !
وهو ما يمكنّهم من اختبار الواقع الفعلي الذي لا يدركه غيرهم .
السبب في عدم أسى الحكماء من صروف الزمان التي تحدث في الحياة وعدم
خشيتهم مما سيأتي منها هو المعرفة التي لديهم ولا توجد إلا
لديهم .
وهي أن الحياة كلها بكل أحداثها .. بكل ما فيها ومن فيها ليست أكثر
من وهم وحلم .
فكيف يأسى أحد من وهم ؟!
إن كل ما هو مطلوب هو معرفة حقيقة الحياة كما هي ..
عندها كل شيء سيأتي تلقائياً !
بطبيعة الحال وكما ذكرنا كثيراً فإن هذه المعرفة ليست مجرد
معرفة عقلية .. هي ليست مجرد معلومة يعلمها المرء وحسب ..
بل إنها تجربة حقيقة بالغة العمق لن تتأتي
النتائج المترتبة عليها إلا إن استحكمت في النفس بعمق
وبكامل كيان المرء ..
وهو الأمر الذي يتطلب الممارسة والمران .. وهو الأمر الذي يتطلب
الميدان والتقييم .
لذا فالسالكون على اختلاف درجاتهم وعلى الرغم من أنهم يعلمون
هذه المعرفة عن الحياة وطبيعتها والكثير منهم اختبر جوانب من
الواقع الفعلي كلمحات ..
على الرغم من كل ذلك فإن هذه المعرفة لم ترسخ في أنفسهم على قدر
رسوخها عند الحكماء .
السالكون يتعثرون ويضعفون ..
ويظلون يخلطون بين الشبكة وبين ذواتهم داخل الشبكة وكل ذلك سببه
الاستغراق كما أوضحنا .
لذا فالسالكين يتألمون لأحداث الحياة وصروف الزمان .. يغضبون ..
يتحسرون .. يندمون .. ويبكون .
تحدثنا من قبل كثيراً عن الحكماء والسالكين .. وقلنا أن الفارق بين
الحكماء والسالكين هو فارق في الدرجة .
الحكماء هم من تمكنوا من الخروج من الشبكة .
السالكون هم من يسعون للخروج من الشبكة ..
بعض السالكين تمكن من خلال الخبرات الإدراكية من مشاهدة الواقع
كلمحات تأتي وتذهب بسرعة .
إن هذه اللمحات لا تجعل من السالكين حكماء .. اللمحات لا تكفي !
الفارق لدى الحكماء هو أن الحكماء تمكنوا من التثبت في هذا
الواقع الفعلي .. من يعيش منهم بيننا هو في الواقع الفعلي وفي
داخل الشبكة في كلا الوقت .
في الحالتين معاً وفي نفس الوقت ..
وهو حالة لا يفهمها من لا يعلم لأنها حالة تتطلب خبرة إدراكية تتجاوز ما مر به من خبرات
.. ولكن الحكماء والسالكون على دربهم يفهمون هذه الحالة لأنها حدثت
لهم على درجات متفاوتة .
الحكماء هم خارج الشبكة .. أما السالكون هم داخلها .
عدم التأسي العميق والتألم الحاد والتعامل مع كل حدث مهما كان
وأياً كان بهدوء وروية واطمئنان هي السمة الأبرز التي يمكنها أن
تفرّق للآخرين بين الحكيم والسالك.
والسبب في ذلك كما ذكرنا أن الحكماء يشهدون أثناء هذه الأحداث أنها
تقع داخل شبكة وهمية داخل الواقع الكلي ..
أما السالكون فلا .. هم يعلمون ولكنهم لا يشهدون على ذلك إلا
كلمحات تأتي وتذهب بسرعة .
لذا فإن الحكماء يذكّرون السالكين دوماً بحقيقة الشبكة وماهية
الواقع الكلي ..
والحكماء يحثونهم دائماً للاستعانة على ذلك بكل جوانب الممارسة
والمعرفة .. التذكر .. القلب .. مراقبة النفس .. التركيز ..
ويطالبونهم دائماً بالسير بشجاعة وعدم التوقف أمام الأحداث مهما
كانت .
" لا تضيعوا الوقت بالنواح والعويل والشكوى والأسى ..
ولا تخلقوا لأنفسكم آلام لا داعي لها .. كل الألم
سيزول قريباً بالصبر والعزيمة "
هكذا يتحدث الحكماء
كل هذا التفاعل بين الأحداث وبين النفس لا يمكن أن يحدث إلا من
خلال مسيرة الحياة .
لا يمكن لطريق الحكمة أن يكون طريق انعزال وابتعاد عن الحياة ..
لأنه كما بيّنا لا يمكن معرفة النفس إلا بالانخراط في الحياة
والتفاعل معها ومع ما فيها ومن فيها .
وهو أمر ينطبق على كل السالكين .. وبعض الحكماء .
قد يلاحظ على بعض الحكماء أنهم أقرب للانعزال .. بل إنهم حريصون
على حياة الاعتزال ..
في أعالي الجبال .. وفي أعماق الغابات والبراري .. وفي أماكن بعيدة
عن العمران .
يعلّمنا علم الحكمة أن هذا الأمر ينطبق فقط على الحكماء .. ولا
ينطبق على غيرهم .
وأن الانخراط في الحياة هو أمر واجب لابد منه لكل السالكين .. لأنه
لا طريق آخر إلا بهذا الطريق كما أوضحنا .
ولهذا فإن علم الحكمة يعلّمنا أن هذا استثناء ..
وعلينا أن ندع الحكماء وشأنهم في ذلك .. فهم يعلمون ما يفعلون !
أما غيرهم فلابد لهم من
الانخراط في الحياة لأنها الميدان الوحيد الذي يمكن من خلاله كشف
وتخطي طبقات الوعي التي توقعهم في الشبكة ..
وأن الهروب من مواجهة الحياة من قبل بعض السالكين الراغبين في
تقليد الحكماء سيؤدي إلى بهم إلى الدمار الكامل ..
سيؤدي إلى سحق أنفسهم وتفتيت عقولهم وهو خطر عظيم يجب
تجنبه بأي ثمن
.
الحكماء الذين يعلمون تمام العلم أن العزلة ضرورية لهم هم فقط لا
غيرهم تجب عليهم العزلة .. وهم يعلمون ذلك بكيفية لا يفهمها أحد
إلا هم .
الذين تجاوزوا الأسى والخوف والحزن من أحداث
الحياة كائنة ما كانت والذين أثبتوا ذلك في ميدان الحياة مرات
عديدة حتى لم يعد لديهم ما يخافون منه في هذه الحياة هم فقط من
يحق لهم اختيار الاعتزال عن الحياة إن وجدوا ذلك ضرورياً لهم .. أما من يسعون للاعتزال عن الحياة لأنهم يتألمون منها فهم في الحقيقة يهربون من المواجهة ..
ومن يهرب من المواجهة سيجبر جبراً وبقسوة
شديدة للعودة للمواجهة ..
السالكون الذين يسعون للهرب من الحياة بدعوى
التشبه بالحكماء .. أو بظنهم أنهم هم حكماء ستُسحق أنفسهم وتتحطم
عقولهم إن اختاروا العزلة وفرضوها على أنفسهم للهرب من الحياة .
هم أشبه بالجندي الهارب من المعركة .. والذي
لن يناله من هذا الهروب إلا الهزيمة والذل .
إن هذا الانعزال الكلي عن الحياة لبعض
السالكين الذين يدّعون الزهد في الحياة أدى إلى ضياع الكثير منهم..
لقد أدى إلى ضياع هؤلاء السالكين في متاهات
عميقة وخطيرة أدت بهم لفقدان سلامة الجسد والنفس والعقل .
كما ذكرنا فإن المعيار الرئيس لجواز الابتعاد
الكلي عن الانخراط في الحياة هو أن يثبت عدم الخوف والتألم من
أحداث الحياة مهما كانت .. وأن يثبت ذلك من أحداث الحياة نفسها .
فهناك فارق كبير بين الزهد والحرمان كما سنبين
لاحقاً .
فطريق الحكمة يفرض الانخراط في الحياة فرضاً .
إن علم الحكمة وطريق الحكماء يعلّم السالك ما هي الحياة ؟ ما هي
حقيقتها ؟ وما هي الغاية منها ؟ وكيف على السالك أن ينظر لها وأن
يتعامل معها ؟
ثم بعد ذلك يُطلب من السالك أن ينزل إلى الميدان وأن يبدأ الممارسة
.. وأن يتعامل مع الحياة ومع كل ما فيها ومن فيها على أساس ما
تعلّمه ..
وعندما يطبق السالك ذلك في ميدان الحياة لن يبدر عنه بالضرورة إلا
السلوك القويم .
ولكن لماذا يبدر عنه بالضرورة السلوك القويم ؟
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |