|
غاية الحكمة – السعادة المطلقة .
من اللحظة التي يعي فيها الإنسان وجوده في هذا
العالم فإن كل فكره يفكر بها ..
كل سلوك يسلكه ..
كل عمل يقوم به .. له في النهاية هدف وغاية
واحده ..
هذا الهدف وهذه الغاية هي السعادة .
السعادة هي هدف الإنسان .. هي مطلبه
وهي غايته .
يسعى الإنسان للحصول على أكبر قدر من الثروة
..
وعلى أعلى درجة من السلطة والمكانة .
يسعى للعلاقات الاجتماعية ..
للحب ..
للعائلة والأبناء.. وللصداقة..
يسعى للمعرفة والعلم ..
للاستكشاف ..للتحدي والإثارة ..
يسعى للحفاظ على الصحة والشباب وطول العمر ..
كل شيء مما ذكرناه لا يسعى له الإنسان من أجل
ذاته بل لأنه يحقق له هدفه النهائي وهو السعادة .
الثروة .. السلطة .. المكانة ..الحب .. الشباب
.. المعرفة هي أدوات تؤدي للسعادة ..
هي ليست السعادة بل هي أسباب تؤدي للسعادة .
فكل شيء يسعى ويعمل ويأمل به الإنسان له سبب
.. باستثناء السعادة فهي المطلوب الوحيد الذي يطلب لأجل ذاته .
ولتوضيح هذه الفكرة ..
فيكفي أن يسأل المرء نفسه أو غيره :
لماذا تسعى للحصول على الثروة ؟
لأن الثروة تمكنني من الحصول على الكثير من
الأشياء وتعطيني الحرية لاختيار كيف وأين سأعيش .. الخ ..
ولماذا تريد كل ذلك؟
لأنني بذلك سأكون سعيد .
ولماذا تريد أن تكون سعيداَ؟
لأنني أريد ذلك !
لماذا ؟
لا توجد إجابة عن هذا السؤال لأن السعادة
مطلوبة لذاتها لا لسبب آخر .
كذلك الأمر لمن يسعى للسلطة ..
لماذا تسعى للسلطة؟
لأن السلطة ستحقق لي المكانة الاجتماعية
والتميز والإنجاز والثروة وستحقق لي مكانه في التاريخ ..الخ
ولماذا تريد كل ذلك ؟
لأن ذلك سيجعلني سعيد .
ولماذا تريد أن تكون سعيداً؟
مرة أخرى لا إجابة لأن السعادة هي شيء مطلوب
من أجل ذاته لا لسبب آخر .
وكذلك الأمر في أي هدف آخر يسعى له الإنسان .
فالسعادة هي
الشيء الذي يريده الإنسان لأنه يريده دون أن يكون هناك سبب
له .
وهي المطلب والغاية التي يسعى الإنسان للوصول
لها لذاتها .
وهو في سبيل تحقيق السعادة يبذل كل شيء ..
يجاهد ويسعى في الحياة ..
يفكر ويخطط ويحسب الخطوات ..
وفي الحقيقة فإن عمر الإنسان وحياته كلها هي
سعي من أجل السعادة .
حياة الإنسان كلها تفنى وهو يحاول ويكرر
المحاولة مرات ومرات للحصول على هذا السبب أو ذاك من الأسباب التي
يعتقد إنها ستحقق له السعادة .
وعندما لا يتحقق له ذلك تظهر المعاناة
فكما ذكرنا عند الحديث عن المعاناة
فإن جوهر معاناة الإنسان إنه إما يسعى لتحقيق
آمال لا تتحقق .. وإما إن ما يتحقق من آماله لا يدوم له .
وإن هذه الحقيقة الواقعة التي يختبرها الإنسان
في كل لحظة من حياته هي الدافع والسبب الذي يدفع للمعرفة والبحث ..
فالمعرفة هدفها الخلاص من المعاناة .
والخلاص من المعاناة هو نفسه تحقيق
للسعادة !
فغاية المعرفة هي إذاً تحقيق
السعادة .
يقول الحكماء إن الواقع الفعلي في الأصل هو
سعادة لا نهاية ولا حدود لها ..
أن الواقع في الأصل هو سعادة كاملة لا تشوبها
أدنى درجات النقص .
هو سعادة مطلقة ..
هو فرح .. ومرح .. ولذة .. ومتعة وبهجة
وسلام لا حدود لها .
وكما ذكرنا كثيراً فإن الحكماء لا يبدون رأياً
من عندهم .. فالحكماء كالعلماء يصفون لنا ما شاهدوه واختبروه
وعندما يقولون أن الواقع الفعلي هو سعادة مطلقة فليس ذلك لأنهم
متفائلون بل لأن هذا ما هو علية الأمر فعلاً .
الواقع الحقيقي هو سعادة
مطلقة .
واختبار الواقع الفعلي هو
اختبار للبهجة والسعادة المطلقين .
وعندما يتحدث الحكماء عن البهجة واللذة
والسعادة المطلقة فهم لا يقصدون السعادة واللذة اللذان نختبرهما في
واقعنا هذا فقط .. فالسعادة التي نختبرها في واقعنا
ليست بشيء إذا
ما قورنت بما هو أعلى من واقعنا .
هناك حرفياً وفعلياً حد لا نهائي للسعادة يمكن
اختباره عندما يتم اختبار الواقع الكلي .
وغاية الحكماء في سعيهم لاختبار الواقع الكلي
هو اختبار هذه السعادة المطلقة .
فغاية الحكمة إذاً هي اختبار الواقع الكلي
والذي هو اختبار السعادة المطلقة .
وكما ذكرنا من قبل فإن الواقع الكلي هو
موجود هنا والآن .
والسعادة المطلقة التي تتحقق باختبار الواقع
الكلي موجودة هنا والآن ..
في هذه اللحظة التي تقرأ فيها هذه السطور ..
في هذه اللحظة أنت في سعادة مطلقة لا حدود ولا
نقص فيها !
فلماذا لا تشعر وتختبر هذه السعادة
إذاً ؟
لأنك لا تختبر الواقع الكلي ..
واختبار الواقع الكلي لا يتم إلا بإزالة الحجب
التي تمنع من اختباره .
فالحكمة هي الأداة التي يمكن بها
إزالة الموانع التي تعيق اختبار و تحقيق السعادة المطلقة.
فالحكمة هي الأداة التي تتحرر بها الذات
العارفة من الشبكة ومن المعاناة والواقع الضيق المحدود التي تفرضه
.
لتنطلق الذات العارفة وقد تحررت من كل القيود
التي تمنعها من اختبار السعادة المطلقة .
عندما يتحدث الحكماء عن السعادة المطلقة التي
يختبرونها عند اختبار الواقع الكلي فهم يصفونها كسعادة تختلف عن
السعادة التي نختبرها في واقعنا ..
هي شيء آخر لا يمكن وصفه ولا حتى
تخيله مهما شط خيال المتخيل .. لأنها خبرة لم نختبرها نحن من قبل .
يقول الحكماء ..
أطلق العنان لفكرك ..
أطلق العنان لخيالك بأقصى مدى تستطيعه ..
تخيل السعادة كما تريد أن تختبرها دون أي حدود
أو قيود ..
هل توصلت لذلك ؟
يقول الحكماء إن السعادة المطلقة التي تخيلتها
بعد كل ذلك لا تقارن بالسعادة المطلقة كما يختبرونها !
هي شيء لا يمكن وصفه ولا يمكن تخيله ..
تماماً كما أن المحدود لا يمكن أن يصف اللا
محدود والمنتهي لا يمكن أن يصف اللا منتهي .
ولتوضيح شيء من هذا الفرق :
فإن الإنسان يختبر
السعادة والمتعة في واقعنا
بأشكال متفرقة لا حصر لها جسدية ..فكرية .. نفسية ..الخ
هنالك متع جسدية
تأتي من طريق الحواس
الخمسة ..
المنظر الجميل .. الصوت الجميل .. الرائحة
الزكية ..الطعم اللذيذ ..الإحساس اللمسي االلذيذ كاللذة الجنسية .
وهناك متع فكرية ونفسية ..
متعة المعرفة .. الاستكشاف .. الانبهار ..
التحدي .. الانجاز .. التميز ..
وهي من المتع والمباهج التي تأتي بطرق شديدة
التنوع والتشابك والتداخل بما لا يمكن حصره .
يقول الحكماء أن هذه المتع والمباهج على
تنوعها واختلافها يجمعها شيء واحد وهي إنها كلها تؤدي إلى
الحالة التي نسميها السعادة ..
هي أشكال من السعادة .
وهي تأتي متفرقة لأننا نختبرها في الواقع الذي
ندركه .. وهو واقع تنفصل فيه الأشياء عن بعضها البعض .
هي أشكال متفرقة من السعادة لأنها
تدرك من خلال واقع متشظي منقسم .
عند إدراك الواقع الكلي بوحدته يتم إدراك كل
أشكال السعادة والمتع والمباهج مجتمعة في وحدة واحدة .
كلها مرة واحدة !
وهي سعادة تختلف في الكم والكيف ولا يمكن وصفها كما إنه لا يمكن وصف الألوان
للأعمى منذ الولادة .
لابد من اختبارها ليتم إدراكها .
وفي الحقيقة فإن الإنسان العادي لا يمكنه تحمل
هذا الكم من السعادة !
تماماً كما أن السلك الضعيف لا يمكنه أن يتحمل
قدر هائل من الطاقة كذلك الأمر في السعادة ..
لا يمكن للإنسان العادي أن يتحمل هذا القدر من
السعادة ..
الإنسان العادي غير مهيأ لتحمل هذا القدر من
السعادة .. سيسحق تماماً أمام هذه الطاقة الرهيبة !
والممارسة الروحية هي التي ستهيئ المرء لتقبل
استقبال وتحمل هذا الكم من السعادة ..
كما ذكرنا فإن الحكماء بشر يسعون للسعادة
كبقية البشر .
ولهذا فهم يستعينون بالمعرفة كأداة لتحقيق هذه
الغاية .
فبعلم الحكمة يتمكن الحكماء من السير على طريق
الخلاص من المعاناة و تحقيق السعادة المطلقة ويتجنبون به الخلط
الذي يقع فيه بقية البشر دائماً عندما يخلطون بين الهدف وبين أدوات
تحقيق الهدف ..
بين السعادة وبين أدوات تحقيق السعادة ..
بين الوسيلة وبين الغاية .
فتصبح الثروة هي الهدف وهي في الحقيقة وسيلة
.. وتصبح السلطة هي الهدف وهي في الحقيقة وسيلة .
ولن يؤدي هذا الخلط إلا إلى مزيد من
المعاناة والشقاء .
وأعمار الأنفس هي التي تحدد مدى شدة هذا الخلط
، فالأنفس الطفولية والشابة دائماً تخلط بين السعادة وأدوات تحقيق
السعادة .
فقط عدما يصل المرء لمستوى النفس الناضجة
ونتيجة للتجارب الطويلة والمعاناة التي تنتج عن هذه التجارب يعي
المرء أن هناك فارقاً بين السعادة وبين أدوات تحقيقها ، عندها يبدأ
البحث الجاد لتجنب هذا الخلط .
ولا عاصم عن هذا الخلط إلا بالعلم والمعرفة
..إلا بالحكمة .
فالعلم يحرر ..
والجهل يقيد ..
فعندما يسأل المرء :
لماذا يفعل الحكماء ما يفعلونه ؟ ما
دافعهم لذلك؟
وما الفائدة والغاية من كل ما يقومون
به؟
تتضح الإجابة الآن :
دافعهم هو الخلاص من المعاناة .
غايتهم هو التحرر من القيود وتحقيق السعادة
المطلقة .
وسيلتهم هي المعرفة وعلم الحكمة وطريقها .
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |