نظرية المعرفة هي البحث المتعلق بطبيعة المعرفة ما هي؟
كيف نعرف؟ وكيف نعرف أن ما
نعرفه صحيح؟
نظرية المعرفة هي من أهم مباحث الفكر والفلسفة . Dangerous Knowledge (1/5) وثائقي يعطي فكرة عامة عن الاكتشافات الحديثة في حدود المعرفة الرياضية والمنطقية The Problem of Deduction
شرح يعطي فكرة أكثر عمقاً لمشكلة تبرير الاستدلال والتي توضح صعوبات بل استحالة إيجاد برهان على أسس البرهان المنطقي . هذا الشرح والشروح الأخرى في القناة التابع لها وجدنا انهما مفيدان للراغبين في التعمق في الأبحاث المنطقية الحديثة والتي نتجت عنها نتائج بالغة الأهمية والخطورة .
نقد العقل الخالص كتاب للفيلسوف الألماني إيمانويل كانت ، يعتبر هذا الكتاب أحد أهم كتب الفلسفة في العصر الحديث . كما ذكرنا في النص فإن للمنهج العلمي والرياضي طرق نهائية للإجابة عن الأسئلة المطروحة فيهما ، طرق نهائية لحسم الخلاف بشكل نهائي ، العلم يستند للتجربة والمنطق والرياضيات يستندان للاتساق الداخلي . تساءل كانت هل يمكن إيجاد طريقة نهائية للإجابة عن المسائل الميتافيزيائية أي الأسئلة الكبرى ؟، هل يمكن إيجاد طريقة تشابة طريقة العلم والرياضيات والمنطق في المسائل الميتافيزيائية لمعرفة الإجابة عن أسئلتها وحل الخلاف بشكل نهائي كما هو الحال عند العلم والرياضيات؟ لقد تطلب ذلك منه أن يبحث بعمق شديد عن ماهية العقل وكيفية تشكل المعرفة ، والكتاب هو هذه الرحلة التحليلية الطويلة والمعقدة للعقل وللفكر وللمعرفة . توصل كانت إنه لا توجد طريقة لذلك ، لا يمكن إيجاد طريقة للإجابة عن المسائل الميتافيزيائية وحسم الخلاف فيها بالعقل وحدة لذا استند بعد ذلك للأخلاق والضمير لعلهما بذلك يكونان المنهج الذي تقوم عليه الميتافيزياء بعد أن ثبت أن العقل يستحيل أن يكون هو المنهج . هذا الكتاب هو كتاب معقد حتى للمتخصصين لذا لا ننصح القارئ بقرائته ، ولكننا ننصح القارئ في البحث عن الخلاصات والنتائج الهامة التي نتجت عن هذا الكتاب وهو أمر متيسر لمن يرغب بالتعمق في فهم المأزق المعرفي . لقد فهم الحكماء هذا المأزق منذ القدم وكان حلهم وما يزال هو أن الحصول على إجابات نهائية للأسئلة الكبرى لا يمكن أن يتم إلا بالبحث في الذات العارفة نفسها ، محاولة البحث خارج الذات هو طريق مسدود لن ينتج عنه سوى مجادلات فارغة لا طائل منها ولا نهاية لها
|
في نظرية المعرفة - مصادر المعرفة
هل هناك شيء خارج هذا الكون ؟
هل هناك خالق للكون ؟ ما هو ؟ أين هو
؟
من أنا ؟ ومن أين أتيت ؟ وإلى أين سأذهب ؟
هل هناك روح ؟
هل هناك خلود ؟
ما معنى الحياة ؟ لماذا علي أن أعاني ومصيري
الحتمي هو الموت ؟
ما الغاية من كل شيء ؟
ما هو الكون ؟ ما هو الواقع ؟
يواجه الساعي
بصدق وجدية لمعرفة إجابات عن هذه الأسئلة مأزقاً خطيراً..
يتمثل هذا المأزق بأن
الإنسان في حاجة ماسة لمعرفة إجابات دون أن تكون لديه طريقة للوصول
إلى إجابات.
لماذا؟
لأن هناك ثلاث طرق يمكن من خلالها العثور على
إجابات عن مثل هذه الأسئلة ..
الدين .
الفلسفة .
العلوم والرياضيات .
وهذه الطرق الثلاث كما نفهمها تقليدياً
لا تعطينا إجابات مقنعة وكاملة.
في الدين
هناك الكثير من الأديان والمعتقدات وهي كلها
تبدو مختلفة ومتضاربة .. فأيهم هو الصحيح؟
كل دين له معتقده الذي يؤكد على صحته ولا يقبل
أي شك فيه.
كل دين له مبرراته و أدلته وكل منهم يدعي إنه
هو الصحيح .. فكيف يمكننا أن نعلم أيهم هو الدين الصحيح ؟
حتى أن كل دين يتفرع في داخله إلى عشرات
المذاهب والاتجاهات ، كل من هذه المذاهب يدعي إنه هو الفهم الصحيح
للدين الذي خرج منه.
والنقاش يدور بين المذاهب في كل دين .
والنقاش يدور بين الأديان .
هذا النقاش يدور منذ مئات بل الآلاف السنين
دون أن يتم حسم شيء.
وهو نقاش حاد كثيراً ما يصل لدرجة الاقتتال
وارتكاب الفظائع .
هي معركة تدور بين الأديان وبين المذاهب داخل
الأديان سالت في سبيلها بحار من المداد والدماء
دون أن يكسب طرف شبراً واحداً من الأرض !
نفس الأسئلة والخلافات تدور وتدور ..
دون حسم .
يدافع أتباع كل دين عن معتقدهم بكل حماس ..
ويقف الساعي للمعرفة والذي لا يكترث إلا للمعرفة
حائراً بين هؤلاء .
لماذا هم على خلاف ؟
من هو على صواب ؟
في الفلسفة
وكذلك الأمر في الفلسفة أيضاً
هناك العشرات من المذاهب والاتجاهات الفلسفية
وكل منها يعطي إجابات ويدعي إن إجاباته هي الصحيحة.
هناك اتجاهات فلسفية تؤمن بوجود شيء خارج
العالم ، وهذه المذاهب تختلف فيما بينها بشدة حول ماهية هذا
الشيء..ما هو؟ وما علاقتنا به؟.
وهناك اتجاهات فلسفية لا تؤمن بوجود شيء خارج
العالم ، وهي تختلف بشدة فيما بينها في الكثير من التفاصيل.
وهناك اتجاهات فلسفية لا تؤمن حتى بأن هناك
مشكلة تستحق البحث!
هناك الكثير والكثير من الاتجاهات والمذاهب
الفلسفية التي تتقارب في جوانب وتفترق بشدة في جوانب أخرى ، لكل
مذهب مؤيديه ومعارضيه ولكل منهم أدلته وبراهينه .
والجدل يدور بين هذه المذاهب منذ الآف
السنين وحتى هذه اللحظة دون نتيجة..
والسؤال الذي يسأله الباحث عن الحقيقة
والذي لا يهمه الدفاع عن دين أو فلسفة ما بل يهمه أن يعلم الحقيقة
هو الآتي :
لماذا؟
لماذا لم يتمكن أحد من حسم الخلاف ومعرفة ما
هو الدين الصحيح؟
لماذا لم يتمكن أحد من حسم الخلاف ومعرفة أي
من الاتجاهات الفلسفية هو الصحيح؟
لأنه لا توجد أصلاً طريقة
للحسم !
سيظل النقاش والجدال دائراً إلى ما لا نهاية
.. لأنه لا توجد أصلاً طريقة لحسم النقاش وإنهاء الجدل .
عندما يختلف العلماء حول ظاهرة طبيعية ما
فهناك طريقة لحسم الخلاف ، وذلك بالرجوع إلى العالم
الخارجي ..إجراء التجارب والقياسات ومعرفة الإجابة النهائية التي
تعبر عن الواقع .
" هل المعادن تتمدد أم تنكمش أم لا تتأثر
بالحرارة؟"
هذه قضية علمية يمكن للعلماء أن يحسموا
الإجابة عنها ، وذلك بالاحتكام إلى العالم الخارجي بإجراء التجارب
في العالم الواقعي ليتم حسم الخلاف .
المعادن تتمدد بالحرارة ..هذا ما ثبت بعد
إجراء التجارب .
تم حسم الخلاف.
لن تعد هذه قضية جدلية بل يتم الانتقال إلى
قضية علمية أخرى ، وهكذا يتقدم العلم .. وبهذه الطريقة تقدم العلم فعلياً عبر التاريخ.
وعندما يختلف الرياضيون حول قضية ما
فهناك طريقة لحسم الخلاف وذلك بالرجوع للبرهان الرياضي.
" هل الأعداد الأولية منتهية أم غير منتهية؟"
هذه قضية رياضية يمكن للرياضيين أن يحسموا
الإجابة عنها وذلك بالاحتكام للبرهان الرياضي المنطقي ليتم حسم
الخلاف.
برهان إقليدس يثبت بالدليل المنطقي أن الأعداد
الأولية غير منتهية.
لا مجال للخلاف هنا .
لقد تم حسم هذه القضية ولم تعد قضية جدلية بل
يتم الانتقال إلى قضايا رياضية أخرى ..وهكذا تتقدم الرياضيات .
كلاً من العلم والرياضيات لديهما طريقة لحسم
الخلاف والتوصل لإجابات .
العلم يحتكم للتجربة والقياس.
الرياضيات تحتكم للاستدلال المنطقي .
أما الدين والفلسفة فلا توجد لديهما طريقة
لحسم الخلاف .
الأمر هنا أشبه بمجموعة من الأشخاص وجدوا
أنفسهم منذ الولادة في جزيرة معزولة يحيط البحر فيها من كل جانب .
وهم يتساءلون فيما بينهم : هل يوجد شيء خارج
جزيرتنا هذه؟
البعض منهم يظن أن هناك جزر أخرى خارج جزيرتهم
ويستند إلى بعض الأدلة في إثبات ذلك.
البعض الآخر لا يظن بوجود شيء خارج جزيرتهم
ويستند إلى بعض الأدلة في إثبات ذلك.
كل طرف ينقض أدلة الطرف الآخر ..
سيظل الجدال دائراً بينهم للأبد لأنه لا توجد
طريقة للتأكد إلا بالخروج من الجزيرة والتثبت فيما إذا كان هناك
جزر أخرى أم لا.
ولكن لا توجد طريقة للخروج من الجزيرة .
لذا لن يتم حسم الخلاف ..سيظل دائراً إلى ما
لانهاية.
هذه هي المشكلة عند الدين والفلسفة .
الأديان كما هي مفهومة تقليدياً
والفلسفة يعطيان إجابات دون أن يعطيان طريقة للتثبت من صحة هذه
الإجابات .
لذا فاعتناق دين ما لابد أن يكون مستنداً فقط
على التصديق
..
من يعتنق دين ما هو في الحقيقة يصدق من أتى به
.. يؤمن به .
فبالفهم العام التقليدي
والشائع للدين لا توجد طريقة
لحسم الخلاف بين الأديان لمعرفة أيهم هو الدين الصحيح.
لأن الدين يقوم على التصديق .
المشكلة إن الكثير ممن يعتنقون دين ما لا
يريدون الاعتراف بذلك!
هم يصرون على أن قبولهم بهذا الدين يستند إلى
أدلة وبراهين وهذه الأدلة تقوم على أساس المنطق والعلم .
فيرد على أدلتهم من يقبل دين آخر
.. ثم يتم الرد على الرد
..
وهكذا مرة أخرى لدائرة الجدال التي لا تنتهي.
كذلك الأمر بالنسبة للفلسفة .
فالفلسفة تستند أحياناً للمنطق أو العلوم
لإثبات صحة مذهبها .
ولكن لا العلم ولا المنطق قادران على حسم
الإجابات عن أسئلة الفلسفة وهذا ما سنوضحه بعد قليل لذا لا يتبقى
إلا إيمان الفيلسوف ..
أمانيه ومخاوفه ورغباته هي التي تحدد له
اتجاهه.
ويقوم الفيلسوف بتوظيف العلم والمنطق ليثبتا
ما يريد هو إثباته مسبقاً !.
وهكذا يعود الفيلسوف بعد رحلة مضنية وشاقة إلى
النقطة التي بدأ منها الإنسان العادي الذي قبل دينه كإيمان دون
دليل.
فلا يتبق أمامنا إلا العلم والرياضيات .
فهل يمكنهما الإجابة
عن الأسئلة الملحة التي نحن في حاجة ماسة للإجابة عنها؟
لا يمكنهما ذلك .
لأن العلم كما نعرّفه الآن يمكنه حسم
الخلاف في القضايا التي يمكن أن تكون خاضعة للتجربة والقياس .
العلم يحتكم في النهاية إلى المدركات الحسية .
لابد لأي قضية نريد للعلم أن يبت فيها أن تكون
في النهاية خاضعة للحواس الخمسة .
هذا هو أساس المنهج العلمي .
المنهج العلمي
يقوم العلم برصد الظواهر وإجراء التجارب في
العالم الحقيقي الخارجي ..
يربط العالم بين الظواهر ونتائج التجارب
والقياسات التي يجريها ليصل إلى فهم أكبر للكون.
القانون العلمي يحدد العلاقة بين الظواهر
بمعادلة رياضية.
أساس العلم هو العالم الخارجي القابل للقياس
والتجربة.
العلم لا يمكنه البت في ظواهر لا يمكن إجراء
قياسات وتجارب عليها ..
أي قضية لا يمكن إدراكها بواسطة
الحواس الخمسة بشكل مباشر أو غير مباشر لا يمكن للعلم أن يبت فيها
.
أي قضية خارج إطار المكان والزمان لا
يمكن للعلم أن يبت فيها .
أي قضية لا تخضع للحواس الخمسة لا
يمكن للعلم أن يقول فيما إذا كانت صحيحة أم غير صحيحة.
لهذا فلا يمكن للعلم أن يجيبنا عن أسئلتنا
الملحة .
لأن أسئلتنا الملحة جميعها هي إما غير معرّفة
أو غير قابلة لإدراك الحواس الخمسة بحكم التعريف !
الوعي .. الروح ..الذات .. كلها حدود غير
معرّفة
وجود شيء خارج العالم ..وجود خالق.. هي بحكم
التعريف قضايا خارج إطار المكان والزمان .
وما هذا حاله فالعلم غير قادر على البت في
أمره.
لا يستطيع العلم أن يقول انه موجود .
ولا يستطيع العلم أن يقول أنه غير موجود .
فهل يمكن للرياضيات والمنطق أن يعطيانا إجابات
عن أسئلتنا الملحة ؟
المنهج الرياضي و المنطقي
الرياضيات تقوم على الاستدلال .
أساس الرياضيات والمنطق ليس العالم الخارجي بل
الاتساق المنطقي.
الرياضيات تقوم على استنتاج حقيقة من حقائق
أخرى منطقياُ ، فهي تكشف العلاقات التي تربط بين المفاهيم العقلية
وعلاقة بعضها ببعض .
ما تتحدث عنه الرياضيات قد يكون له وجود في
العالم الخارجي وقد لا يكون له وجود..لا يهم.
المهم
أن لا يكون هناك تناقض داخلي بين الحقائق الرياضية التي تستخرج من
بعضها البعض.
ولتوضيح هذه النقطة الهامة سنعطي مثلاً :
كل الحيوانات قادرة على الطيران ..
هذا فيل .. وهو حيوان .
إذاً هذا الفيل قادر على الطيران .. نسمي هذا استنتاج .
على الرغم من أنه ليست كل الحيوانات يمكنها
الطيران .
وعلى الرغم من أن الفيلة في الحقيقة لا تطير .
إلا إن الاستنتاج الذي ذكرناه يعتبر صحيحاً من
الناحية المنطقية .
لأنه في المنطق والرياضيات لا يهم أن تكون
الاستنتاجات والحقائق مطابقة للواقع .. المهم أنها لا تحتوي على
تناقض منطقي .
الحقائق الرياضية والمنطقية كلها من هذا النوع
.
الحقيقة الرياضية تسمى مبرهنة.
المبرهنة قد تثبت شيء وقد تنفي شيء آخر.
هناك الكثير من المبرهنات في كل فرع من فروع
الرياضيات .
المبرهنة تستنتج منطقياً من مبرهنات قبلها ..
المبرهنات التي قبلها تستنتج من مبرهنات قبلها ..وهذه الأخيرة
تستنتج من مبرهنات قبلها ..
وهكذا إلى أن نصل إلى الأساس الذي تم استنتاج
كل المبرهنات بناءاً عليه.
هذا الأساس هي مجموعة من المفاهيم يضعها
الرياضي وتسمى مسلمات .
المسلمات هي حقائق توضع دون برهان .
هي حقائق يرى الرياضي إنها بيّنة وواضحة
بذاتها لا برهان عليها وهي تستخدم للبرهنة على أي شيء آخر .
فالبرهان الرياضي يقوم على أساس من مسلمات لا
برهان عليها.
فهل توجد على الأقل مسلمات نهائية محدودة يمكن
بالرجوع إليها استنتاج كل الحقائق الرياضية؟
تبين إنه لا يوجد .. ولن يوجد.
تبين إنه مهما حاولنا أن نضع مجموعة من
المسلمات لتكون أساساً لمبرهنات معينة فستظهر دائماً مبرهنات
جديدة لا
يمكن استنتاجها من هذه المسلمات ، هذه المبرهنات التي ظهرت ستكون
في حاجة لمسلمات أخرى يمكن استنتاجها منها ..
من هذه المسلمات الأخيرة ستظهر مبرهنات أخرى
جديدة في حاجة لمسلمات أخرى جديدة والتي بدورها ستظهر منها مبرهنات أخرى ..
وهكذا دائرة لا تنتهي!
بمعنى آخر..
لكي تكون القضية المنطقية قابلة للحل فلابد أن
تكون مستنتجة من أساس ما .
الأساس هذا لكي يكون منطقياً لابد هو بدوره أن
يكون مستنتجاً من أساس آخر .
والأساس الأخير لكي يكون منطقياً فلابد أن
يكون مستنتجاً من
أساس جديد..وهكذا دائرة لا تنتهي.
ولتجنب هذه الدائرة فلابد أن نستند في النهاية
من حقيقة لا تستند لأي حقيقة أخرى..
ولأنها لا تستنتج من أساس آخر فهي إذاً غير
منطقية..بحكم التعريف !
هذا الأساس لابد أن يوضع وضعاً ..دون برهان .
هذا يعني أن المسلمات الرياضية التي تستند
عليها كل الرياضيات لابد أن توضع وضعاً .. وهي حقائق لا يمكن
البرهان على صحتها أو خطئها منطقياً .
بعد وضع الأساس الذي ليس عليه برهان يتم
استنتاج ما يترتب عليه من مبرهنات .
بالاستناد لهذه المبرهنات يتم استنتاج مبرهنات
أخرى ..ثم أخرى ..ثم أخرى.
إن هذه مسألة في الحقيقة هي مسألة بالغة العمق والخطورة !
وهي مشكلة من ضمن مشاكل كثيرة وخطيرة في أسس الرياضيات والمنطق برزت
بشدة نتيجة للأبحاث الحديثة بالغة العمق المتعلقة بالرياضيات
والمنطق والتي حدثت في القرن الماضي .
ومنها مسألة تظهر حتى في قواعد الاستدلال المنطقي نفسها ..
ولتوضيح هذه المسألة عندما تتعلق بقواعد الاستدلال نقول مثلا ً :
كلما أمطرت السماء تبتل الأرض
السماء تمطر
إذاً الأرض مبتلة .
هذه قاعدة من أهم القواعد التي يستعان بها في الاستدلال المنطقي
واستخراج المبرهنات من المسلمات .
وهي قاعدة تقول إذا قبلنا أن الشرط سيؤدي لنتيجة ثم حدث الشرط
فنحن ملزمين منطقياً بأن
نقبل بحدوث النتيجة .
والسؤال الذي يبدر هنا :
لماذا نحن ملزمين ؟
على أي أساس منطقي نبرر هذا الإلزام ؟
فمثلا لو قبلت أنه كلما أمطرت السماء تبتل الأرض .. لنفترض أنني قبلت
ذلك
ثم قبلت أن السماء تمطر .. قبلت هذه أيضاً
ولكنني لم أقبل الاستنتاج بأن الأرض مبتلة .. فكيف ستبرر لي منطقياً
إنني مخطأ ؟ فيكون الرد لأنك بذلك تكون مخطئ منطقياً .. إن هذا أمر واضح !
فيأتي السؤال : لماذا هو أمر واضح ؟ كيف تعرف أن هذا خطأ واضح ؟ على أي
أساس ؟
وفي الحقيقة لا توجد إجابة إلا لأنه واضح وحسب !
وفي الحقيقة لا يوجد مبرر منطقي يلزمنا بالالتزام بالمبرر المنطقي !
إن هذه مشكلة منطقية حقيقية تسمى مشكلة تبرير الاستدلال ..
هذه المشكلة تقوم في الأساس على أنه لا يوجد برهان على أسس البرهان .
وهكذا فإن المبرهنات لابد أن تُستخرج من مسلمات هذه المسلمات لا برهان
عليها بل هي بيّنة بذاتها .
وقواعد الاستدلال المنطقي التي نستخرج بواسطتها المبرهنات من المسلمات
هي بدورها لا برهان عليها بل هي تُستخدم لأنها بيّنة بذاتها .
فالرياضيات والمنطق واللذان هما أساس لبرهنة كل شيء آخر هما بدورهما لا
برهان عليهما !
المسلمات التي هي الأسس التي تقوم عليها الرياضيات لابد في النهاية أن
توضع وضعاّ.
وقواعد الاستدلال التي هي الأسس التي يقوم عليها المنطق لابد هي أيضاً
في النهاية أن توضع وضعاً .
ولأن الأساس الذي تقوم عليه الرياضيات والمنطق
توضع
وضعاً فالرياضيات والمنطق لا يكترثان فيما إذا كانت قضاياهما تعبر
عن أشياء موجودة في العالم الخارجي أم لا .
المهم ألا يكون هناك خطأ في الاستدلال بين
المبرهنات والمقدمات يؤدي لتناقض .
لهذا لا يمكن للمنطق والرياضيات أن يجيبانا عن
أسئلتنا الملحة لأننا نسألهما عن حقائق فعلية في العالم الذي ندركه
أو خارجه .. وهما لا يستطيعان الحديث عن الحقائق الخارجية في
العالم هما فقط يكترثان لمنع وجود أي تناقض منطقي .
هما لا يستطيعان أن يقولا لنا فيما إذا كان
هذا الشيء يوجد أو لا يوجد في العالم الفعلي .
هما فقط يستطيعان أن يبينا لنا فيما إذا كان
استنتاجاتنا صحيحة أم لا .
مازال الجدال دائراً بين المجموعة التي تعيش
في الجزيرة المعزولة ..
البعض يصر على انه يوجد جزر أخرى خارج جزيرتهم
والبعض الآخر يصر على العكس..
يستعين هؤلاء
بالعلم ..
العلم يرد : هل يمكن إجراء قياس أو تجربة
خارج جزيرتكم؟
يرد أحدهم : لا ..نحن مقيدون بجزيرتنا ..لا
يمكن الخروج منها.
يرد العلم : إذاً لا يمكنني أن أبت في الأمر
.. أنا لا أبت إلا بما يمكن إجراء قياس أو تجربة عليه ..آسف لا
أستطيع المساعدة .
تركض المجموعة باتجاه المنطق والرياضيات
طالبين إجابة : هل توجد جزيرة خارج جزيرتنا؟
يرد المنطق : يمكنني إن أستنتج لكم الإجابة عن
سؤالكم؟ ولكني في حاجة لمقدمات .. يمكنكم إعطائي أي مقدمات تشاءون
وسأبين لكم فيما إذا كان استنتاجاتكم من مقدماتكم سليمة أم لا.
يرد أحدهم بقلق: ولكن لا يوجد لدينا مقدمات
لأننا لا نعلم فيما إذا كانت هناك جزر أم لا ، نريدك أنت أن تعطينا
الإجابة .
يرد المنطق ببرود: هذا الأمر ليس من اختصاصي
!..كل ما أستطيع فعله أن أتثبت فيما إذا كان استنتاجكم من مقدماتكم
التي وضعتموها يحتوي
على تناقض منطقي أم لا .
وبهذا يتمثل المأزق الذي يواجه الباحث عن
إجابات عن الأسئلة الملحة التي تهمنا.
العلم يستطيع أن يتحدث عن العالم الخارجي
..ولكن هذا العالم الخارجي لابد أن يخضع للمدركات الحسية.
ولكن المشكلة أن مواضيع أسئلتنا لا تخضع
للمدركات الحسية .. لذا فالعلم لا يمكنه البت فيها.
المنطق مجاله هو التثبت ألا يكون هناك تناقض
بين البراهين والمقدمات التي استخرجت منها .. المنطق والرياضيات لا
يبتان بما هو في العالم الحقيقي الخارجي.
مواضيع أسئلتنا الملحة هي أشياء يفترض أنها
موجودة فعلاً في العالم الحقيقي الخارجي ..لذا المنطق لا يمكنه
البت فيها .
كما أوضحنا فلا يوجد لدى الدين أو الفلسفة
طريقة لحسم الخلاف .
العلم والرياضيات والمنطق لهم طرق لحسم
الخلاف ولكن أسئلتنا تتجاوز أطر هذه الطرق .
وللأهمية البالغة لهذه المسألة نعيد ونلخص
المأزق الذي يواجه الساعي بصدق للمعرفة :
الساعي للمعرفة يسأل عن أشياء فيما إذا كانت
موجودة فعلياً في العالم الخارجي أم لا..
الساعي للمعرفة لا يمكنه الاستعانة لنيل
إجابات إلا بالدين أو الفلسفة أو العلوم والرياضيات والمنطق.
الدين والفلسفة يعطيان إجابات ولكنهما لا
يملكان طرق للتثبت منها ..
لذا فالخلافات لا يمكن حسمها..
العلم يمكنه أن يعطينا أن إجابات عن العالم
الخارجي ، يمكنه أن يقول لنا فيما إذا كانت الأشياء موجودة فعلياً
أم لا ..
ولكن مشكلته هو إنه لا يستطيع أن يعطينا
إجابات إلا عن المسائل التي يمكن آن تخضع في النهاية للحواس
الخمسة.
أي شيء لا يقع تحت هذه الحواس لا يمكن للعلم
البت فيما إذا كان موجوداً أم لا.
لذا فالعلم لا يمكنه الإجابة عن أسئلتنا لأنها
لا تقع تحت الحواس.
الرياضيات والمنطق يمكنهما أن يتحدثان عن
مسائل لا تخضع للحواس لأن منهجهما يقوم على الاستدلال .
ولكن مشكلتهما إنهما لا يستطيعان البت فيما
إذا كانت القضية موجودة فعلياً في العالم الخارجي أم لا ..
كل ما يستطيعان فعله هو البت فيما إذا كانت
القضية متناقضة أم لا ، ولكنهما لا يستطيعان أن يبتا فيما إذا كانت
القضية موجودة فعلياً في العالم الخارجي أم لا..
أسئلتنا كلها تتطلب إجابة عن أشياء هل موجودة
فعلياً في العالم الخارجي أم لا .
فبذلك فإن العلم
والمنطق على الرغم أن لديهما طرق لحسم الخلاف ولكن مع ذلك فإن هذا
لن يفيدنا :
لأن العلم لا يمكنه الحديث إلا عما يقع تحت
الحواس فقط ونحن نريده أن يجيبنا عما لا يقع تحت الحواس
الرياضيات والمنطق لا يمكنهما الحديث عن شيء
في العالم الخارجي . ونحن نريدهما أن يبتا في أشياء يفترض أنها
موجودة في العالم الخارجي
فالمأزق المعرفي يتلخص إذاً بالآتي :
ما يمكنه أن يعطينا إجابات لا
يعطينا براهين .
ما يمكنه إعطاءنا براهين لا يعطينا
إجابات .
فالدين والفلسفة يعطيانا أجوبة ولكنهما لا
يعطيانا براهين قاطعة وإلا لم يكن هناك خلاف .. هما في النهاية
يطالبانا بالتصديق والموافقة .
العلم والرياضيات يعطيانا براهين حاسمة دائما
ولكنها لا يستطيعان الإجابة عن أسئلتنا ..
الجهل بهذا المأزق
المعرفي يؤدي لنقاش وجدال لا نهاية ولا طائل من وراءه . والذي لا يكترث للمجادلات التي لا تنتهي ولا يهمه إلا المعرفة سيضطر لمواجه هذه الحقيقة التي لا مفر منها .. وهي إنه لا الدين ولا الفلسفة ولا العلم ولا الرياضيات قادرين على إعطاءنا إجابات حاسمة غير قابلة للشك .
فما الحل؟
هل مقدر علينا أن يكون مصيرنا معلقاً بأسئلة
لا توجد لدينا طريقة للإجابة عنها؟
يقول الحكماء إن هناك طريق للمعرفة .
هناك طريقة يمكننا من خلالها الإجابة عن
أسئلتنا ..
وهناك طريقة يمكننا من خلالها التثبت من
إجاباتنا بالبرهان القاطع .
ما هي هذه الطريقة؟
هذه الطريقة هي التجربة المباشرة .
ولكننا قلنا إن أي شيء يمكن أن يخضع للتجربة
فلابد أن يكون خاضعاً للمدركات الحسية ، وجميع أسئلتنا هي غير
خاضعة للمدركات الحسية .. فكيف يمكن القيام بالتجربة المباشرة إذاً
؟
يجيب الحكماء عن ذلك بالالتفات لا إلى الحواس
.. ولا إلى الأشياء التي تأتينا عن طريق الحواس ..
بل إلى المدرِك نفسه .. إلى السائل نفسه..
إلى الذات العارفة..
بهذه الطريقة وليس بغيرها يمكن الخروج من
الجزيرة والتثبت فيما إذا كان هناك جزر أخرى فعلياً أم لا .
طريق الحكماء ينطلق من التركيز على الراصد لا
على المرصود ..
بالالتفات
للعارف لا إلى المعروف .
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |