|
في الممارسة – طريق الخبرة المباشرة
الهدوء النفسي – السلام الداخلي
كل من يسعى للقيام بجهد ذهني فهو في حاجة
للهدوء .
تثبيت التركيز على فكرة واحدة فقط وطرد أي
فكرة أخرى هو مجهود ذهني يتطلب الهدوء .
والسالك يتعلم منذ البداية أن عليه ممارسة
التقنيات الذهنية في بيئة هادئة وبمعزل عن الناس.
وكما ذكرنا فإن السالك عندما يمارس التقنيات
الذهنية التي يتعلمها من طرق الحكمة بإصرار شديد ولفترة من الوقت
فهو ينجح بالظفر بلمحات عن الواقع في مستوياته العليا ولكنها لمحات
سرعان ما تذهب .
المشكلة أن السالك هنا يواجه ضجيجاً من نوع
آخر ..
هذا الضجيج يأتي من فكره هو .. من عقله هو .. هي أفكار عن نفسه وعن الآخرين ..عن مستقبله ..عن حياته وما يواجهه من أشخاص وأحداث .. عن حاجاته الجسدية والنفسية .. مسؤولياته والتزاماته ..مخاوفه وآماله ..
عشرات ومئات
الأفكار التي تفرض نفسها عليه بقوة وعناد .
يجاهد السالك لطرد هذه الأفكار وتثبيت ذهنه
على فكرة واحدة فقط ..
ولكن هذه الأفكار لا تطرد حتى تعود فوراً بقوة
وعناد أشد !
يكتشف السالك بنفسه أو بمعونة معلمه ومرشده أن
السبب في ذلك هو النفس ..نفس السالك .
عندما تضطرب النفس يضطرب الفكر .
ولكي يهدأ الفكر .. لابد أن تهدأ النفس .
هذا ما يقوله علم الحكمة ..وهذا ما ستثبته
التجربة للسالك .
لا يمكن فصل النفس عن الأفكار .. كلاهما شيء
واحد يؤثران ويتأثران ببعضهما البعض . فلا يوجد هنا شيئان .. فكر و نفس ..
هناك شيء واحد فقط ..الوعي .
النفس والفكر هما مظهران لحقيقة واحدة هي
الوعي .. التأثير على أحدهما يؤدي للتأثير على الآخر .
التقنيات الذهنية التي ترتكز على الفكر وتقوية
التركيز تؤدي إلى التأثير على النفس ولهذا السبب فإن السالك ينجح
بالظفر بلمحات الواقع في المستويات العليا .
ولكن السالك يكتشف مع طول التجربة بأنه لا
يمكنه المحافظة على تثبيت تركيزه إلا بالتعامل مع نفسه .
إذا أراد السالك أن يتقدم في طريق الحكمة
سيعلم أنه عاجلاً أم آجلاً لابد أن يواجه نفسه هو .
الفكر يضطرب لأن النفس مضطربة .
عليه الآن أن يبحث عن سبب هذا الاضطراب في
نفسه وعليه أن يعالجه .
هنا يبدأ السالك مرحلة أعلى من الممارسة
الروحية .. مرحلة أكثر عمقاً .
على السالك هنا أن يبحث في أعماق ذاته عن
أسباب الاضطراب في نفسه .
النفس بحر عميق وعلى السالك الآن أن يغوص في
أعماق هذا البحر .
القلق .. الخوف .. الحزن .. الغضب ..الخجل
..الذنب ..الكراهية ..الطمع
كلها مظاهر لاضطراب النفس .
الأفكار التي تفرض نفسها على ذهن السالك هي
بسبب هذه المظاهر .
الأفكار هي انعكاس هذه المظاهر في ذهن السالك
.
عندما يكون المرء قلقاً متوتراً فإن ذلك ينعكس
في ذهنه كأفكار وتخيلات وأوهام ..وسينعكس على جسده كسرعة في النفًس
ونبض القلب وصعوبة في النوم ..الخ
عندما يكون غاضباً فإن ذلك ينعكس في ذهنه
كأفكار وتخيلات وأوهام أخرى تعكس الغضب الذي فيه .. وسينعكس ذلك
على جسده كذلك .
وكذلك الأمر عندما يكون حزيناً ..أو شاعراً
بالعار أو الذنب .
كل شعور في النفس ينعكس على الذهن كأفكار وعلى
الجسد كأعراض جسدية تتناسب مع هذا الشعور .
النفس و الفكر والجسد هم شيء واحد يؤثر كل
منهم بالآخر ويتأثر فيه .
والنفس هي الأعمق بينهم والأكثر غموضاً .
والسبب الذي يؤدي إلى عدم ثبات التركيز هو هذا
الاضطراب النفسي وما ينتج عنه من أفكار وأعراض وتخيلات وأوهام .
طالما أن هذا الاضطراب موجود فستظل هذه
الأفكار والأعراض موجودة ولن تزول ولا يمكن السيطرة عليها إلا
بمعالجة سببها .
لذا فالسالك يعلم الآن إنه لا يمكن له أن يصل
إلى الدرجة التي يتمناها من الثبات الذهني إلا إذا عالج أسباب هذا
الاضطراب .
تُعلِم طرق الحكمة السالك أن عليه أن يسأل
نفسه ..
لماذا أنا قلق؟ لماذا أنا غاضب ؟ لماذا أنا
حزين ؟
وسيجد أن لهذا القلق أسباب عميقة في نفسه لم
يكن هو يعلم عنها شيئاً .
عليه أن يعالجها سبباً سبباً وأن يبذل كل
الجهد للتخلص منها الواحد تلو الآخر .
كلما تعمق السالك في نفسه أكثر كلما علم عن
نفسه ما لم يكن هو يتخيله !
قد يكتشف أنه ضعيف وقد كان يظن أنه قوي .. أو
أنه حقود وقد كان يظن أنه متسامح .. أو أنه خائف وقد كان يظن أنه
شجاع !
وطرق الحكمة تعلم السالك تقنيات تمكنه من
اكتشاف عيوب نفسه وكيفيه معالجتها .
فلا يمكن للاضطراب النفسي أن يزول إلا بمعالجة
سببه .
في هذه المرحلة الأكثر تقدماً في طريق الحكمة
تصبح الممارسة الروحية هي اكتشاف وعلاج للنفس .
هي تطهير وإبراء لأمراض وعيوب النفس .
يقول الحكماء أنه لا يمكن الوصول للهدوء
النفسي ألا باكتشاف عيوب النفس ومعالجتها .
وهي رحلة تتطلب الكثير من الصدق و الشجاعة
والإرادة التي لا تلين .
فمن السهل على المرء أن ينتقد الآخرين ويطلق
عليهم الأحكام ..
الآن على السالك أن ينتقد ذاته هو !
على السالك أن يدخل في مرحلة
طويلة من العلاج لنفسه هو سواء كان ذلك وحدة أم بمعاونة
معلمه ومرشده .
عليه أن يعترف أن به الكثير من العيوب
والنقائص وعليه أن يكتشف هذه العيوب ويعالج أسبابها في نفسه بكل
صدق وشجاعة.
والهدف من هذا العلاج هو التخلص من الاضطراب
النفسي الذي يمنعه من السيطرة على فكره .
فمن أين يأتي هذا الاضطراب النفسي؟ ما مصدره؟
هذا الاضطراب يأتي من الشبكة .
كما قلنا فإن الواعي يدخل إلى الواقع المحدود
من خلال الجسد ثم من خلال طبقات الشخصية .
طبقات الشخصية هي الأفكار والقيم التي يتعلمها
الواعي منذ لحظة ولادته في هذا الواقع المحدود ..
يعرف الواعي نفسه من خلال هذه الطبقات ..
هذا أنا ، هذا جسدي ..
هذا أنا ، هذه أفكاري ..
هذا أنا هذا ما أحبه وما لا أحبه .. هذا ما
أطمح إليه وما لا يجب أن أطمح إليه .. هذا ما أؤمن به وما لا يجب
أن أؤمن به ..
هذه الطبقات ليست هي الواعي بل هي طبقات
يزرعها الآخرون فيه .. الأب والأم .. العائلة .. نظام التعليم ..
المجتمع .. الثقافة .. العادات والتقاليد .. السلوكيات ..الخ
تزرع هذه الطبقات في ذهن الواعي ويعرّف الواعي
نفسه من خلالها .
المصدر الأول هو كل شيء .. الخالد المطلق الذي
لا حدود له .
الواعي هو جزء من هذا المصدر الأول .. هو
أيضاً خالد ومطلق لا حدود له .
يدخل الواعي إلى الواقع المتدني المحدود من
خلال جسد ثم من خلال التي الطبقات التي تكون شخصيته .
يعرف الواعي نفسه على أنه كل ذلك .
من المصدر الأول إلى مستويات الوجود الأعلى
إلى مستوانا الوجودي المتدني إلى الجسد والشخصية وطبقات الوعي داخل
هذا المستوى ثم إلى العالم الخارجي المتمثل بالشبكة.
هذا هو الاتجاه الذي يدخل الواعي فيه إلى
الواقع المحدود .
الآن وقد أراد الواعي الخروج من هذا الواقع
المحدود عليه أن يسلك الاتجاه المعاكس .
في رحلة العودة هو يواجه هذه الطبقات ..
هذه الطبقات كما ذكرنا تعرّفه هو تحدد من هو
..
ففي رحلة العودة في الاتجاه المعاكس للخروج من
الواقع فالسالك يواجه نفسه هو ..
يواجه ما يظن أنه هو ..
يواجه أناه التي يعتقد أنها تمثله هو ..
والأنا لن تدع السالك يخرج بسهوله .. ستقاوم
بعنف شديد
هذه المقاومة هي سبب هذا الاضطراب النفسي ..
هذا الاضطراب النفسي هو ما يظهر كأفكار ومخاوف
عنيده تفرض نفسها على ذهن السالك ..
تحجب عنه رؤية الواقع كما هو والموجود هنا
والآن ..
الأمر هنا أشبه بالماء الذي يغلي ويفور ..
الماء هي النفس ..
الأفكار هي الفوران .. هي الفقاقيع التي تظهر
على سطح الماء ..
هذه الفقاقيع التي تتحرك بعنف شديد هي هذه
الأفكار التي تظهر على ذهن السالك وتمنعه من تثبيت فكره .
تُعلِم طرق الحكمة السالك أن يتذكر دوماً أن
هذه الأفكار هي مجرد فقاقيع !
عليه ألا يخشاها .. عليه أن يواصل الارتحال
بشجاعة .
مواجهة السالك لطبقات الشخصية التي تكوّنه هو
..
والمهمة التي يقوم بها السالك في اكتشاف أعماق
نفسه ومعالجة أسباب الاضطراب والتأزم النفسي هي المرحلة الأطول
والأكثر صعوبة والأكثر خطورة التي يواجهها السالك .
السالك هنا كمن دخل في غابة كثيفة متشابكة
شديدة التعقيد ..مظلمة و مليئة بالأخطار ..
نفس السالك وطبقات شخصيته هي هذه الغابة .
كثيراً ما يضيع السالكون في هذه الغابة
الكثيفة ..
وكثيراً ما ينحرفون عن الهدف .. كثيراً ما
يفقدون الاتجاه ..
تتضاعف هذه الخطورة عدة مرات عندما يكون
السالك وحيداً يسير دون معين .
هنا تأتي أهمية تعاليم وتقنيات طرق الحكمة
التي تهدف إلى إعانة وإرشاد السالك وإعادته إلى الطريق الصحيح
للخروج من هذه الغابة الخطيرة .
الحكماء هم أشخاص تمكنوا من اختراق هذه الغابة
وهم يرشدون السالك لكيفية القيام بذلك .
من المهم أن يفهم القارئ أن الغابة التي تمثل
طبقات شخصية السالك ليست شيئاً ثابتاً محدداً.
السالك هو فرد ضمن مجتمع .
السالك لا يواجه نفسه فقط .. هو يواجه المجتمع
الذي يعيش فيه .
والمجتمع هو جزئيات أخرى من الوعي دخلت إلى
الشبكة من خلال طبقات أخرى .
السالك يتفاعل مع مجتمعه .. هذا التفاعل هو
تفاعل حركي متغير .
عندما يسود الجهل في هذا المجتمع فإن كل القيم
والأفكار الذي يقوم عليها المجتمع تدعو السالك وتغريه للتخلي عن
هدفه .
المال هو الهدف ..
السلطة هي الهدف..
اقتناء هذا الشيء أو ذاك هو الهدف ..
الشهرة والتميز هما الهدف ..
التفوق على الآخرين هو الهدف ..
من لا يسعى من أجل ذلك فهو فاشل .. جاهل ..
ضعيف ..خيالي ..مجنون!
هذه هي الأفكار والقيم هي التي تحدد المجتمع .
هذه هي الشبكة التي يجد السالك نفسه وقد علق
بها ..
وهي تلح على نفس السالك وعقله وتدعوه دائماً
للشك والتخلي عن هدفه .
الأمر يشبه تماماً إنسان يسعى من أجل هدف عظيم
وكل من حوله يؤكد له أنه مخطئ بما يفعل ..
كل من حوله يؤكد له أن هدفه مستحيل ..وهمي لا
وجود له ..
كل من حوله يؤكد له أنه يضيع الوقت .. يضيع
حياته بما لا طائل منه ..
المجتمع نفسه يُلح عليه بطرق كثيرة
يعيها السالك أحياناً ولا
يعيها أغلب الأحيان ..
بشكل مباشر وغير مباشر ..
ليل نهار ..
في اليقظة والنوم ..
المجتمع نفسه
يصبح العائق الأكبر الذي يواجهه السالك..
والمجتمع كما ذكرنا هو مجموع تفاعل أجزاء
الوعي مع بعضها البعض ..
المجتمع هو الشبكة ..
طبيعة الشبكة خارج ذهن السالك تتمثل بالأشخاص
الآخرين .. بالمجتمع ..
طبيعة الشبكة داخل ذهن السالك تتمثل بالأفكار
والقيم التي تمثل شخصية السالك وقيمه التي تربى عليها ..
كلها تتفاعل مع بعضها
البعض وتجعل من نفس السالك كالماء الذي يغلي بشده..
سائل يفور ويزبد بعنف وشدة بالأفكار والمخاوف
التي لا تتوقف والتي تفرض نفسها على ذهن السالك ونفسه وتحرمه
الهدوء النفسي الأمر الذي يحرمه الثبات الذهني والتركيز .
هذه هي طبيعة الشبكة ..
فالأفراد الذين تتكون الشبكة منهم لا يقصدون
إعاقة السالك أو إخراجه عن طريقه .
هم لا يفعلون ذلك عن قصد أو نية .. هذه هي
طبيعتهم هم .
هذا ما يظنوه ويعتقدوه ..
لأنهم هم أيضاً أجزاء من الشبكة يدخلونها من
خلال طبقات شخصية زرعت فيهم زرعاً.
في رسالة من السماء إلى الأرض سنوجه
الانتباه أكثر لطبيعة المجتمع والنظام الاجتماعي الذي يمثل عصب
الشبكة وهيكلها الأساسي .
سيتبين معنا هناك كيف أن النظام الاجتماعي هو
نفسه تفاعل البشر مع بعضهم البعض .. شكل هذا التفاعل يُحدد من خلال
القيم والأفكار والعادات والسلوكيات الموجودة في عقول وأنفس أفراد
المجتمع ..
وهي بدوره تتحدد من خلال التفاعل في النظام
الاجتماعي .
هي تُحدد النظام الاجتماعي وتتحدد منه .. تؤثر
وتتأثر به .
سنبين في هذا الرسالة ماهية النظام الاجتماعي
الذي يمثل الشبكة وكيف نشأ وما سيترتب عنه .
وسيتبين معنا من خلال فهم النظام الاجتماعي
كيف تقوم الشبكة بفعلها في التأثير على كل من يقع داخلها .. سيتبين
معنا من خلال فهم النظام الاجتماعي كيف يحدث ذلك بالضبط .
وكيف يظهر الخوف والقلق والحيرة والغضب
والحسرة كنتيجة لفعل آليات النظام الاجتماعي .
الخوف والقلق والغضب والحسرة .. الأهداف
والآمال .. كلها تتحدد من خلال النظام الاجتماعي وتتحدد به ..
هذه المشاعر والأحاسيس والأفكار التي
تنتج عن تفاعلنا مع النظام الاجتماعي هي مصدر هذا الاضطراب النفسي
الذي يمنع السلام الداخلي والتركيز .
هي نفسها آثار طبقات الشخصية التي تؤثر على
السالك وعلى جميع أفراد المجتمع معاً
فالسالك هنا إذاً لا يعاني فقط من طبقات
شخصيته هو فقط .. بل من طبقات الشخصية التي تكون كل أفراد المجتمع
الذي يحيط به .. والتي في تفاعلها معاً تكون الشبكة .
هذا التفاعل كما ذكرنا هو تفاعل حركي متغير .
تصبح الشبكة التي يعلق بها السالك وأفراد
المجتمع أشبه بغرفة مسجون بها عدة أشخاص ..
هذه الغرفة تدور بشدة وعنف ..كالدوامة الهائلة
..
وهي بدورانها وحركتها السريعة تمنع الأشخاص
المحبوسون فيها من الخروج منها .
الأشخاص في الغرفة دائخون .. فاقدون لحس
الاتجاه ..
من يقف منهم يسقط بقوة وعنف لشدة دوران الغرفة
..
هم بالكاد يتمكنون من التشبث في أماكنهم ..
فكيف عليه الحال لمن يريد الخروج من هذه الغرفة !
السالك هو من يريد الخروج من هذا السجن ..
هو أيضاً دائخ من شدة الدوران .. ولا يعلم أين
المخرج وأين الباب ..
هو يسقط ويتعثر .. ويرتطم بقوة بالجدران !
والآخرون يطالبونه بالتوقف عن فعله والاكتفاء
بالتشبث في مكانه .
يقول الحكماء أن هذا ما يحدث فعلياً
وحرفياً لكل من هو واقع في هذه الشبكة .
جدران الغرفة هي الأفكار والقيم المستحكمة في
أذهان الناس وأنفسهم والتي تحجب عنهم رؤية الواقع كما هو ..
وتحبسهم داخلها ..
وهي تدور بعنف وقوة تمنع كل من يحاول اختراقها
والخروج منها ..
تفقده القوة والحماس والأمل ..
يقول الحكماء أن العالقين في هذه الغرفة والتي
هي الشبكة اعتادوا عليها للدرجة التي ظنوا أنه لا وجود لما هو
خارجها .
هم أسوأ أنواع المساجين ..
لأنهم مساجين لا يعلمون حتى أنهم مساجين !
هم كالمسجون منذ عشرات السنين والذي نسي لطول
المدة أن هناك عالم خارج سجنه .. واعتاد على ما في داخل السجن من
قيود ..
بل يصل الأمر إلى أن السجين نفسه يقاوم كل من
يحاول إخراجه من القيد !
هذه هي قوة الشبكة ..
وهي كلها قيم وأفكار وطبقات تكوّن شخصية كل من
دخل فيها .. هي شبكة يصنعها العالقون بها ثم لا يعلمون كيفية
التخلص منها .
وكأن كل هذه العوائق لا تكفي .. هناك عوائق
أخرى !
ما يزيد الأمر سوءاً أن هناك من يحرص ويهدف عن
قصد ونية مسبقة أن يمنع من في الغرفة من الخروج منها ..
الغرفة تدور بعنف .. وبدورانها تمنع من فيها
من الخروج منها ..
هناك من يوجد خارج الغرفة ويعطيها المزيد من
الدفعات لتسريع الدوران !
هناك من يوجد خارج الشبكة وهو حريص على منع كل
من فيها للخروج منها ..
من هم هؤلاء ؟
هم كائنات من خارج هذا العالم .. هم كائنات
واعية حقيقية وفعليه !
ما يهمنا أن يعلمه القارئ هنا أن رحلة الخروج
من الشبكة تواجه بمقاومة عنيفة وشديدة .
وعلى السالك مقاومة الشبكة للخروج منها .. لا
يوجد حل آخر .
هي معركة لا بد من خوضها .
من يختار عدم المقاومة فالشبكة كفيلة به !
طرق الحكمة هي التي تعين السالك للخروج من
الشبكة والخلاص من القيد .
وكما ذكرنا فإن الشبكة توجد في داخل ذهن
السالك متمثله في طبقات شخصيته وأفكاره وقيمه وتوجد أيضاً في خارج
ذهن السالك متمثله بالمجتمع وقيمه
وثقافته والأفراد الذين يكونون هذا المجتمع .
وعلى السالك مواجهة الاثنين معاً .
وهي معركة صعبة وخطيرة ..
تتمثل صعوبتها وخطورتها أن السالك الآن يستشعر
ثقَل هذه المعركة وقوة ضغوطها داخل نفسه وخارجها .
يواجه السالك هنا هذه العوائق التي تحرمه
وتمنعه من تحقيق هدفه بكراهية وغضب شديدين .
تماماً كما ينظر المسجون إلى سجّانه .. فهو
الذي يحرمه الحرية والخلاص .
يصل السالك في هذه المرحلة إلى كراهية المجتمع
وإلى كراهية النفس .
ينعزل السالك عن محيطه .. وينظر لكل ما هو
خارج ذهنه كعدو .
ويكره السالك نفسه والطبقات التي تكوّن شخصيته
.. هو يواجه نفسه بالكره والغضب .
يؤدي ذلك السالك إلى مزيد من الوحدة والحزن
والإحباط وكراهية النفس والإحساس بالذنب .
يؤدي ذلك بالسالك لأن ينظر لكل شيء بغضب
واشمئزاز .. نفسه والمجتمع الذي يعيش فيه .
يصل السالك لمرحلة خطيرة هنا تهدد سلامة النفس
والعقل معاً.
وكل من حول السالك ينظرون له بحيرة .. هم لا
يفهمونه ولا يفهمون لماذا يقوم بما يقوم به ..
مما يؤدي لمزيد من العزلة ومزيد من الغضب
والكراهية والحزن والشقاء للسالك ولمن يحيط به .
قد يؤدي ذلك لاستسلام السالك تماماً وتخليه عن
هدفه كلياً ..
وقد يؤدي ذلك إلى تحطيم السالك نفسياً ..
وقد يؤدي ذلك إلى تهديد سلامة العقل ..
وهذا خطر حقيقي يواجه السالك في هذه المرحلة
الصعبة والقاسية على طريق الحكمة .
لماذا يحدث كل ذلك ؟ وما الحل ؟
يقول علم الحكمة
أن هذه المرحلة هي مرحلة
طبيعية في تطور السالك الذهني والنفسي .
سبب كل هذا الشقاء أن السالك قد انحرف عن
الطريق وضاع في مجاهل الغابة المتشابكة !
والحل هو أن يعود للطريق مرة أخرى .
كراهية النفس تحدث نتيجة لانغماس السالك في
الأفكار التي تحدد طبقات شخصيته ..
السالك في هذه المرحلة يتفاعل مع هذه الأفكار
وكأنها حقائق ثابتة .. جدران حقيقية تمنعه من اختراقها .
وكراهية المجتمع لا تعني إلا إن السالك يظن
أنه شيء منفصل عن المجتمع .. وإن المجتمع المحيط به هو أيضاً جدران
حقيقية تمنعه من اختراقها .
كلا الاعتقادين يخالفا المعرفة الصحيحة عن
الواقع .
على السالك أن يتذكر دائماً السيطرة على الفكر
.
عليه أن يتذكر حقيقته الفعلية التي تعلمها في
محور المعرفة وهي إنه في حقيقته الفعلية هو جزء من المصدر الأول .
هو خالد .. مطلق .. حر .. نقي وطاهر .
إن كل طبقات الشخصية التي تغلف وعيه هي أشبه
باللباس الذي يغلف الجسد .
فإذا كان هذا اللباس قذراً أو قبيحاً عليه أن
يتذكر إنه مجرد لباس ..
يمكنه طرحه واستبداله بما هو أنقى وأجمل ..
تقنيات وتعاليم طرق الحكمة تحرص دوماً على أن
يتذكر السالك ذلك دائما ..
كل يوم .. بل عدة مرات في اليوم !
عندما تظل هذه المعرفة حاضرة في ذهن السالك
وبالتمسك بها بإصرار وعناد .. يغفر السالك لنفسه عيوبها ..
يغفر لنفسه كل أفعاله وأخطاءه السابقة .
تزول كراهية النفس تدريجياً.
وعندما تزول كراهية النفس يزول معها الإحساس
بالذنب والعار والغضب .
ما ينطبق على نفس السالك ينطبق على الآخرين .
يتعلم السالك تدريجياً أيضاً أن يغفر للآخرين
أخطاءهم وأفعالهم ..
وبذلك تذوي كراهية السالك لمحيطه ومجتمعه ..
ويبدأ الهدوء النفسي في التسرب إلى نفس السالك
..
كالماء العذب البارد الذي يطفئ نار الغضب
والقلق والكراهية التي تشتعل في ذهن السالك ونفسه .
ومعها تخف الأفكار التي تعكس هذه الأحاسيس
ويتمكن السالك من السيطرة أكثر على فكره ومن تثبيت تركيزه .
إن الوصول لهذا المستوى ليس بالأمر الهين ..
هو يتطلب الكثير من المداومة والمران والسيطرة
على الفكر والنفس ..
والأمر كله يعود لعزم السالك وإرادته .
يؤكد علم الحكمة إن الهدوء النفسي لا يمكن أن
يأتي بجرة قلم !
فكما أن اللياقة البدنية العالية لا يمكن أن
تأتي بمجرد معرفة
المرء بأنها هدفاً .
لابد من التمرين .. لا بد من الرياضة .
كذلك الأمر في الهدوء النفسي ، للوصول إليه
لابد من الرياضة والتمرين والمداومة .
والرياضة في حاجة لميدان .
الميدان هو المكان الذي يدرب الرياضي جسده فيه
وهو المكان الذي يقيّم الرياضي مستوى تطوره .
اليوم تمكن من الجري لمدة خمس دقائق ...
اليوم التالي تمكن من الجري لمدة عشر دقائق ..
وهكذا يقيّم الرياضي تطوره من خلال الميدان
الذي يتدرب فيه .
كذلك الأمر لدى السالك ..
الحياة التي يعيشها السالك هي الميدان الذي
سيدرب السالك فكره ونفسه والتي سيقيّم السالك نفسه من خلالها
هي موقع التدريب وهي موقع الاختبار.
على السالك الآن العودة للحياة وبدء التمرين !
لابد من
مسيرة الحياة
|
الرئيسية | المكتبة | اتصل بنا |